زاوية الأبحاث

العلمانية وثقافة المصادرة!!!

د. موسى الانصاري
  

  
بسم الله الرحمن الرحيم
  العلمانية وثقافة المصادرة!!!
  لم يشهد ما يصطلح عليه بـ(الفكر العلماني) تصديقا لدعواه في قبول الآخر وفتح قنوات الحوار وصولا إلى الحقيقة التي هي غاية الفكر في أي حوار يتبناه ، أو آخر يحاوره!!! حيث أن معرفة الحقيقة هو إيذان بحصول التكامل الذي يسعى له الإنسان وشكّل سيرورته التاريخية وصيرورته الفكرية ، ولكن هذه السيرورة والصيرورة بقيت عاجزة عن الخروج من دائرة (أنا) الإنسان ، وحركتها حتى أصابها ما يصطلح عليه المناطقة بالـ(دور) ، حيث شكلت الأنا مبدأ الحركة ومنتهاها ، ومن المعلوم أن (أنا) الإنسان هي في واقعها (إمكان وجود) وليست وجوداً حقيقيا ، ولاشك في أن الاعتراف بهذه الحقيقة هو أول نوافذ الخروج من الدائرة المغلقة للفكر العلماني ، التي استلبت الفكر البشري وحرمته من الصعود في مدارج الكمال وصولا إلى حقيقة إمكان الوجود التي هي ـ بأبسط بيان ـ نزوع النقص نحو الكمال وصولا إلى التماهي مع الوجود والعودة إليه والفناء فيه حتى لا يبقى إلا (الواحد القهار) ، وهذا يعني إن لدى (إمكان الوجود) نزوع فطري نحو امتلاك صفتي ؛ الواحدية ، والقهرية ، وهاتان الصفتان لا يتحصل عليهما (ممكن الوجود) أو بتعبير آخر (الإنسان) إلا من خلال تفعيل الجانب الوجودي فيه وهو الجانب الربوبي وجعله حاكماً على الجانب العدمي فيه بوصفه جانباً عبودياً يكشف عن حقيقة الإنسان بوصفه عبد عارف بكلمة الله سبحانه معرِّف بها ، وهي الغاية التي من أجلها خلقه واجب الوجود ، خلقه كي يكون عارفا به معرِّفا له ، وهذه الغاية جعلت الإنسان يمر بمرحلتي امتحان أمام من أوجده ليكون مستحقا لحمل أمانة المعرفة التي كلف بها ولأجل ذلك كان إمكان الوجود ؛ ملكوتيا (عالم الأنفس والصور) وملكيا (العالم الجسماني) ، وهما عالمي الامتحان اللذين يؤكد فيهما المخلوق استحقاقه لمعرفة ربه وقدرته على تمثل المنظومة الأخلاقية لربه سبحانه .
  إن حقيقة المعرفة هي ؛ معرفة المخلوق بالخالق ، أو معرفة الناقص(الفقير المطلق) بالكامل(الغني المطلق) ، وغاية المعرفة أن يتخلق المخلوق بأخلاق الخالق ، وحتى تتحقق هذه الغاية لابد من وجود وسيلة يتوسلها الفقير إلى الغني ، فكانت الوسيلة المعلم المنصب من الله سبحانه(الغيب المطلق) ، وهو في زمننا هذا الإمام المهدي(ع) ، وقضية احتياج الإنسان إلى معلم هذه من البديهيات التي لا جدال فيها ذلك لأن البشر ـ عموما ـ متعلمون بالاكتساب ، ولابد للإنسان كي يكون عالما أو عارفا أو مفكرا من التعلم ، ولذلك كانت هذه المؤسسات التعليمية المتنوعة التي نشهدها اليوم ، وقد يسأل سائل عن معلم الشريعة ؛ من علمه ـ أي يسأل عن الإمام المهدي(ع) ـ وكيف ، ولماذا؟؟؟!!! هذه الأسئلة على واقعيتها الظاهرة لكنها تتجاوز قضية ـ أحسبها ـ مهمة ؛ وهي أننا إذا سلمنا بنقص (الأنا) قبال (الهو) ، أو سلمنا بنقص المخلوق قبال الخالق ، وضرورة معرفة المخلوق بالخالق ليتدرج في الكمال نحو الكامل ، فسنسلم بديهيا بضرورة رسول من الغيب أو معلم من الغيب ، وهذا التسليم يعني فيما يعني ؛ الإيمان بالغيب ، وهذا الإيمان ـ بحسب درجته ـ تقل قيمة السؤال بـ(كيف ولماذا) من خلال الإجابة الإلهية المحكمة (الله أعلم حيث يجعل رسالته) ، وهذه الإجابة يعرف حقيقتها تماما من يثق بالمعلم ثقة العارف الصادق لأنه سيكتشف أن المعلم هو تماما كما بيّن يماني آل محمد(ص) عندما سئل عن معنى (إعرف الله بالله)؟ فأجاب قائلاً ومن دون مقدمات طويلة الآتي :
  (أي أعرف الله سبحانه وتعالى بالله في الخلق وهو الإمام المهدي (ع) فهو صلوات ربي عليه تجلي وظهور الله في الخلق ، أي تجلي وظهور مدينة الكمالات الإلهية في الخلق . 
  وبعبارة أخرى : تجلي وظهور أسماء الله سبحانه في الخلق . فهو صلوات ربي عليه وجه الله سبحانه وتعالى الذي يواجه به خلقه ، فمن أراد معرفة الله سبحانه لابد له من معرفة الإمام المهدي “(ع) وهذا ما ورد عنهم في احاديثهم (ع) فقد ورد في الزيارة الجامعة : (( … من أراد الله بدأ بكم ، بكم يبين الله الكذب ، وبكم يباعد الله الزمان الكلب … )) )(من كتاب المتشابهات الجزء الأول) ، ومن المعلوم بل والبديهي أن المعرفة الحق هي معرفة الوجود الأصل من خلال الآليات التي زود بها الغني المطلق عبده الفقير من مثل إمكان التدبر والتعقل والنظر ، قال تعالى {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }(الإسراء/36) وها هو سبحانه يوصي عبده الفقير إليه أن لا يهرول خلف كل ناعق لأن آلات المعرف التي زوده بها ستكون مسؤولة وستشهد على صاحبها وما عمل بها ، وفي أي سبيل أجراها ، لذلك فالمعلم أو المندوب عن المنقذ (السيد أحمد الحسن اليماني الموعود) يلفت انتباه المتعلم قائلا بلسان فصيح بيِّن بعيد عن المواربة : (لم أقل لأحد اتّبعني أعمى بل افتح عينك وميّز الدليل واعرف صاحب الحق وانقذ نفسك من النار) ، وها هو يعرف نفسه للمتعلم(الحق) بل للناس كافة كي يكون تعريفه حجة أمام الله سبحانه غداً ؛ إما للمتعلم بمعرفته الحق ، أو عليه لإصراره على الجهل وخداع نفسه بمعرفة وهمية (كالتي ينادي بها العلمانيون) حيث قال السيد أحمد الحسن وصي ورسول اإمام المهدي(ع) في خطاب الحج في شهر ذي القعدة الموافق عام 1427هـ ق (ولم آت لأدعو الى الحق كله الى الحق المطلق بدون تمهيد وتهيئة من الله سبحانه . لقد عرفكم الله حقيقة هؤلاء العلماء غير العاملين لمّا بعث الله علماء دعوهم الى شيء من الحق فواجههم العلماء غير العاملين بالقتل والتشريد ، قتلوا شخصياتهم ومهدوا للطغاة قتل أبدانهم وتشريدهم ، وبين أيديكم السيد الخميني والسيد محمد باقر الصدر والسيد محمد محمد صادق الصدر ، عميت عينٌ لا ترى الحقيقة أو أنها تتغاضى عنها . ما هذه المصيدة التي أوقعوكم بها أيها الناس هل يعقل أنكم تُقادون في كل مرة لقتل نبي أو وصي أو عالم عامل وتسيرون مع علماء الضلالة غير العاملين حتى إذا تمت تصفيته لطمتم الصدور وأسبلتم دمع العيون وأبديتم الندم على فعلتكم القبيحة الشنيعة ثم تعيدون الكرة مرة بعد أخرى وتتبعون علماء الضلالة غير العاملين وتلدغكم نفس الأفعى من نفس الجحر في المرات كلها . أفيقوا يا نيام أفيقوا يا موتى .
  أتعرفون حالي وحال هؤلاء العلماء غير العاملين على لسان عيسى(ع) إذاً أسمعوا هذا المثل من عيسى(ع) : ( كان صاحب مزرعة عنب تركها في أيدي العمال وسافر بعيداً ثم بدا له فأرسل وكلاءه ليقبضوا المزرعة والثمر فقام العمال بقتل وكلائه ثم أرسل أبنه وقال يهابون أبني ويسلمونه المزرعة والثمر ولكنهم لما رأوا الإبن قالوا هذا أبنه الوحيد وهو الوارث نقتله لتبقى المزرعة والثمر لنا ) والذين أستولوا على المزرعة هم العلماء غير العاملين وصاحب المزرعة هو الأمام المهدي ( ع ) ووكلاؤه الذين أرسلهم هم العلماء العاملون الذين قُتلوا وشُردوا ، أما أبنه فهو الذي يصرخ بكم ؛ أفيقوا يا نيام أفيقوا يا موتى أفيقوا (وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يُسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور) .
  هذا غيض من فيض ما قدمته الدعوة اليمانية المباركة وطرحته للساحة الفكرية العالمية ، غير أننا في زمن ما يسمى بـ(الانفتاح) على الآخر ، عانت الدعوة وأنصارها بل ومن يحاول محاورتها أو مجادلتها بالحسنى إلى حرب شعواء من الآخر لم تكتف بالمضايقات الفكرية بل تعدته إلى أبعد من ذلك ؛ إلى إراقة الدماء والاعتداء على المقدسات وانتهاك الحرمات ، بل لم تبق موبقة متاحة للآخر إلا وارتكبها بحق هذه الدعوة من دون وازع من ضمير ، بل ومن دون احترام لما ألزم الآخر به نفسه ، حتى أن هذا الآخر ذكرنا بجاهلية قريش عندما كانوا يصنعون آلهتهم من التمر ويؤدون لها طقوس التقديس ، وإذا ما جاعوا أكلوها!!! فهذا الآخر الذي يدعي انفتاحه على عامة الفكر ، ما إن طرحنا فكرنا على الساحة حتى عدا على تلك القيمة وازدردها ليكشر عن أنيابه الجاهلية التي لا تحتمل أن ترى من يفضح قبحها ووحشيتها!!!
  إن غاية ما يحلم به العلمانيون العرب هو تصورات خرافية حقا ذاك أنهم عندما يتحدثون بمنطقية يقرون النسبية والتفاوت بين الناس ، وعندما يأخذهم التحليق بعيداً في فضاء اللف والدوران ؛ بين تحليل وتبرير وتقرير ، يصلون إلى أن الغاية التي يريد الإنسان الوصول لها هي إلغاء الطبقية!!! وهذه النتيجة الغريبة العجيبة قد تجد لها عشاقاً تستلبهم المفردة المشاعرية والسياقات الرومانسية في سوق مثل تلك الأفكار إلا إنها فكرة لا وجود لها في واقع الإنسان الذي تدعي العلمانية تمثيله والنطق بلسانه ، بل هي خيالات وأوهام طالما غازلت نفوس الشبيبة ذات النزوع الرومانسي ، فوهم إلغاء الطبقية ؛ أ ليس خرافة؟؟؟!!! هل من الممكن أن نتصور ولو تصورا وجود مجتمع بطبقة واحدة كله !!! 
  إذن ما الغاية من وجود الإنسان وأين البلاء والامتحان الذي يجعل الإنسان مشدودا إلى عالم النور الذي جاء منه؟؟؟!!! 
  إن الصبغة المادية للفكر العلماني جعلته ينزع إلى صنمية غريبة!!! صنمية لا تؤمن بالقوالب الفكرية ، والمنظومات الجاهزة ، صنمية تعمل بآلية التحول والتغيير المستمر ، فهي ـ إذا جاز التعبير ـ صنمية (النظام المتحول المفترض) ، وهذا الصنم هو تصور نسبي بامتياز ويكفل لكل فرد تكييفه بما يشاء وعلى وفق ما يشتهي ، فهو في الواقع صورة متقدمة لصنم التمر القرشي الجاهلي!!!
  إن هذا الفكر ثابته (التحول المفترض) ومن ثم لا ثابت لديه حقيقي أو بأدنى حال واقعي ، بل هو ثابت زخرفي مخادع ، لا يمكن أن تقبض من وراء السعي خلفه ومطاردته على نتيجة ما!!! قال تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(النور/39) وهذا واضح لمن يقرأ موضوع الكاتب هاشم الخالدي ؛ إن غاية ما يريد الخالدي الوصول إليه هو وجود مجتمع مادي لا مشكلة لديه ، وهذه الغاية بحد ذاتها غاية خرافية مائة بالمائة!!! وحتى الحلول التي يقترحها لتعود الاشتراكية حية بعد أن دفنتها الرأسمالية وسوت التراب على قبرها في مهدها (روسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق) ، هي في واقعها أوهام وخرافات .
  أما العقيدة المهدوية فهي في واقعها تقدم حلولاً وعلاجات ناجعة لكل سرطانات الحضارة المادية ، وذلك من خلال تغيير منظومة عمل المجتمع أفرادا وجماعات من خلال ربطه بالسماء ، وإعادة وصل ما قطعته الحضارة المادية على المستوى ؛ النفسي والمجتمعي والفكري والاقتصادي والسياسي ، بإقامة محور عمل هذه المستويات وهو المحور الأخلاقي ، أي أن محور الحضارة الإلهية البديلة هو الأخلاق التي تصطبغ بها حركة المجتمع على جميع صعده ونواحيه ، ومن المعلوم هو غير محور الحضارة المادية تماما ، ذاك أن محور الحضارة المادية هو (المال) الاقتصاد ، وحتى المنظومة الخلقية لهذه الحضارة تتغير استنادا إلى تغير مراكز القوة التي تستحدثها حركة رأس المال بين الناس!!!
  وقبل أن أختم أؤشر إلى أن العلمانية على الرغم من محاربتها لكل فكر ينافسها في الساحة وتحاول قدر الإمكان تسقيطه ورميه بكل المثالب التي فيه والتي فيها من خلال إسقاط نقصها عليه ، غير أنها اليوم بمواجهة فكر لم يدع أصحابه أنهم آلهة الناس ـ كما تدعي هي تحت أقنعة الثقافة والتنوير ـ أو قادتهم المفروضين عليهم لأنهم يؤمنون تماما ـ بفضل الله ومنه سبحانه ـ أن هذا القول دغل في القلب وانتهاك لحرمة الدين الذي شرعه الله سبحانه ليصلح به ما أفسد البشر ، وهذا كما أشرت آنفا غيض من فيض لمعرفة أي الحزبين ينتج الخرافة؟؟؟!!! قال تعالى {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(الرعد/25) .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى