زاوية العقائد الدينية

تفسير القرآن بالقرآن مغالطة وهم … وحقيقة فهم

بسم الله الرحمن الرحيم

ربما يعد طيبا أن يتحدث المتحدثون في شهر القرآن بالقرآن بل ويصبح ربيع القلوب ، غير أن من المعروف لدى الإنسان العاقل أن الدخول إلى مدينة مليئة بالأعاجيب والأسرار يحتاج الداخل فيها إلى دليل هو من أهل المدينة عارف بأسرارها كي يعرفه سبلها ويدله على ما ينفعه فيها ومنها ، ولذلك أولئك الذين يقصدون مدينة المعرفة ليصدق عليهم وصف السائحون لا يغامرون بالدخول إليها من دون دليل يأخذ بأيديهم إلى ما ينفعهم


، ويخفف عنهم مشاق التخبط هنا وهناك في مفاوزها لمعرفة الأماكن ، ذاك أن السائح الحقيقي ما كان ليقدم رجلا ويؤخر أخرى في هذا المشروع الذي هو غاية خلقه ووجوده ليظفر بتيه لا يتعرف فيه إلا على مسميات الأماكن أو ليكتشف مسمياتها ، بل هو بدأ الرحلة ليكشف عن نفسه غلالة الجهل بتلك المدينة العظيمة التي اجتذبته ليسيح فيها ، فيكون مسيحا على قدر جده واجتهاده في المعرفة وكشف ما هو مستور فيها من جواهر المعرفة وأنوارها التي استودعها الله سبحانه إياها ليجعلها وسيلة السائحين إليه كي يصلوا بنفوس تشع بنوره وقد اغتسلت من ظلامها عند مداخل مدينته الطاهرة المقدسة ، ودخلت إليها برفقة دليله الذي عينه لها وحمله مسؤولية قيادتها ، فاستحالت تلك النفوس أودية ، والدليل هو السماء التي أفاضت على تلك الأودية لتكون هي فياضة بقدرها ، ومعلوم أن السماء هي تعبير يكشف عن حامل الرسالة العليا ، ذلك أن حمله للرسالة أعطاه رفعة وعلواً وجعله رأسا لجسد الأمة التي جُعل لها ، فمثلما لا يمكن أن يكون إنسان برأسين فكذلك لا يمكن أن تكون القيادة البشرية متعددة ، بل أن تعدد القيادات يدلل على فشل المشروع القيادي الذي تواضع عليه الناس تماما ، ويكشف عن عجز فاضح للبشرية في سلوك سبيل المعرفة على وفق مراد واهب المعرفة ، ولذلك نلحظ أن تمردها جعلها تتخبط في مقدمات المعرفة والله سبحانه أراد لها أن تخوض بحور المعرفة خوض العارف العالم بمنه وفضله وتوفيقه .
من هذه المقدمة السريعة والبسيطة أريد أن أخلص إلى حقيقة مفادها أن توهم الأمة الإسلامية في قراءة القرآن بوصفه نصا لغويا جعلها تراوح في حدود المفردات والتراكيب وما يتعلق بها ، ونسيت الغاية التي من أجلها نزل كتاب الله من عليائه إلى الناس في أدنى العوالم التي خلقها الله جلت قدرته ، التي لا ولم ولن يعصى الله سبحانه إلا فيها ، ولو كانت تعدل عند الله سبحانه جنح بعوضة لما سقى فيها الكافر شربة ماء ـ بحسب تعبير المعصومين من آل محمد(ص) ـ وهنا قد يبدر سؤال مفاده ؛ إذا كانت هذه الحياة الدنيا عند الله سبحانه بهذه الزنة المتدنية ، فلماذا خلقها وخلقنا فيها؟؟؟ وهذا السؤال يستبطن أهمية كبيرة ، وأهميته تكمن في معرفة المخلوق نفسه ليتمكن من معرفة ربه ، بمعنى أن هذا العالم هو العالم الوحيد من دون العوالم الإلهية الأخرى التي يكتشف فيه المخلوق أنه يحتاج إلى دليل إلهي احتياجه إلى الهواء فمثلما لا عيش بلا هواء ، فكذلك لا حياة مطلقا بلا دليل إلهي يقود قافلة البشرية إلى ربها سبحانه ، وفي هذا العالم ترك الناس أحرارا تماما في الاختيار (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) ، والإنسان إما أن يختار التمرد على الأوامر الإلهية فيسلك بذلك سبيل الغي أو يلزم نفسه بنفسه على وفق الأوامر الإلهية فيختار سبيل الرشد .
إذن مهمة الإنسان في هذا العالم منحصرة في اختيار الجهة حسب ، وليس له القدرة على أن يدخل إلى المدينة الإلهية سائحا من دون دليل منصب من الله سبحانه يرشده ليستحق بذلك أن يكون سالكا في سبيل الرشد ، أما الذي لا يلتزم دليلاً فهو يخبط في السبل خبط عشواء كحاطب الليل ، وهذا ما عليه حال الأمة الإسلامية منذ انتقال رسول الله(ص) إلى الرفيق الأعلى إلى يومنا هذا ، حيث أنها مازالت تخوض في أدنى مراتب النص وهي الظهور اللفظي أو اللغوي ، متغافلة أو متجاهلة أن اللغة عاطلة تماما من دون أن يكون لها لسان ناطق بها ، بدليل أن هناك ما يسميه اللغويون اليوم بـ(اللغات الميتة) لماذا؟؟؟!!! لأنه لا يوجد من ينطق بهذه اللغة ، أي لا يوجد لهذه اللغة رأس ، على الرغم من إمكان وجود بشر يتحدثون فيها ، وأعني بالرأس هنا الحاكمية ذاك أن المتأمل ـ مثلا ـ في حال (الإنكليزية) يلحظ أنها تغزو العالم وتفرض نفسها باطراد تمدد حاكميتها ـ بغض النظر الآن عن أحقية الحاكمية أو بطلانها ـ وكذلك العربية تعد المنافس الوحيد لتلك اللغة في التنافس على العالمية على الرغم من وجود ـ مثلاً ـ أكثر من مليار آدمي يتحدثون بلسان الصينية ولكن الأمر لا يتعلق بكثرة أو قلة ، بل هو يتعلق بقضية الحاكمية ، فالعربية على الرغم من استفاضة المحاولات لقتلها واغتيالها ورصد الأموال الطائلة لتهميشها إلا إنها لازالت إلى اليوم تفرض نفسها لأنها لسان حاكمية ، وكل لسان حاكمية يستديم بقاءه من بقاء الحاكمية ، وهذا من القضايا الخطيرة التي ربما لم يلتفت إليها أحد ، بل ربما التفت لها دهاقنة السياسة العالمية وعلموا ذلك السر ، وحاولوا جاهدين على إخفائه على الرغم من هذا الاهتمام المبالغ فيه في دراسة الألسنيات وبلوغ علم اللغة هذه المرتبة من الأهمية من بين العلوم حتى يكاد يكون العلم الأول المنافس للعلوم التقنية المتقدمة .
ليس هناك من سبب يبرر هذا الاهتمام سوى ارتباط اللسان بالحاكمية ارتباطا لا فكاك فيه لأحدهما من الآخر ، لذا ففقدان الناطق(الرأس) يحيل اللغة إلى المقابر ، وتصبح أثرا لا عين له ، ومن يلتفت إلى الأبحاث الآركيولوجية يلحظ أن اهتمامها الأول ينصب على معرفة لسان الأمم الغابرة التي تركت آثاراً كشف عنها البحث الآركيولوجي ، كيف تستبين تلك الحضارة المندثرة وعمقها المعرفي وما إلى ذلك من المتعلقات التي يحاول البحث من خلالها رسم صورة قريبة من حال تلك الحضارات المندثرة .
إن حضور الناطق (الرأس) يجعل اللغة حية متدفقة فياضة ، فتوفر السماء يعني توفر إمكانية الفيض ، ولكن عندما تغيب السماء أو تنعدم يصبح الفيض محالاً ، وتضطر البشرية إلى أن تمتح من المستنقعات والمسطحات التي لا يؤمن وقوع الخبث فيها وتنجيس مائها ، ومن المعلوم أن الماء تعبير عن العلم لأنه ـ أي الماء ـ عنصر من عناصر الحياة المادية الثلاثة التي هي تراتبا في الأهمية ؛ (الهواء) حيث لا يمكن الاستغناء عنه أبداً فانعدامه هو انعدام الحياة تماما ، و(الماء) الذي يعني فقدانه الموت والجفاف ، و(الغذاء) الذي يعني فقدانه المرض ثم الموت !!! وهذه الموجودات المادية هي في الحقيقة صورة وظهور لعناصر ثلاثة مهمة في الوجود إذ أن خلو الوجود من رأسها يعني انعدامه ، وخلو الوجود من العنصرين الآخرين يعني عبثيته وخلوه من الحكمة ، والعنصر الأول والرأس هو وجود (الحاكم) المنصب من الله سبحانه العامل باسمه المتحرك بأمره جل وعلا ، وخلو الأرض من هذا الحاكم يعني أنها تسيخ بأهلها ، والعنصر الثاني الذي يشكل جناحه الأيمن هو ؛ (العلم) الذي هو وسيلته لكشف جهل البشرية وظلامها ، والعنصر الثالث الذي يشكل الجناح الأيسر هو ؛ (راية البيعة لله) التي هي جناح القوة والقدرة ، وفقدانها يعني الضعف ، ثم الموت ، وهذه العناصر الثلاثة هي التي تنعقد بها الولاية عموما بغض النظر عن اتجاهها ، وهذه العناصر ما كانت لتكون لولا الله سبحانه ، قال تعالى{وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}(الأنعام/91) ، حتى ولاية الشيطان(لع) الزائفة لا تستغني عن هذه العناصر الثلاثة بعموميتها لا بحقيقتها ، حيث تستبدل (التنصيب) الإلهي بحاكمية الناس(الانتخاب أو الشورى أو سمها ما شئت) ، و(العلم) هو ما كان وليد الحس والتجربة ، و(الراية) هي ما كانت وليدة الغشم والغصب والقهر . وهو غصب واضح لمبادئ القانون الإلهي الحق في نظم الأمر وسياسة الحياة .
وورد عن آل محمد(ص) قولهم ما معناه (لا تخلو الأرض من حجة لله ناطق بالحق ولو خلت لساخت بأهلها) ، ولثبوتية هذا الحديث في النفوس والضمائر ذهب مثلا وراح يردده الناس بمختلف شرائحهم حيث يقولون (لو خليت قلبت) ، والسواد الأعظم يورد هذا المثل في مقام توفر أهل الخير ، وهو صحيح مع النظر إلى الأصل أي إلى آل محمد(ص) لأنهم أصل الخير وهم السماء التي أفاض الله سبحانه منها الخير (الماء) ـ أي العلم ـ وفاضت به أودية المتعلمون منهم كل بقدره لينقلوه للناس فما كان نقلا عن آل محمد(ص) كان نافعا للناس وماكثا في الأرض وما كان رأياً من الناس كان زبداً وهو يذهب جفاءً ، ومما ينبغي الإلفات إليه ؛ أن (العلم) كله نقل ولا يكون عقلا أبداً لأن ذلك خلاف الحال فالعلم يعني الإحاطة والهيمنة ، والعقل هو وسيلة فهم ولا يكون محيطاً ومهيمناً مادام طالباً ، ولا ينتهي طلبه إلا بكماله وتمامه من خلال فنائه في العلم فلا يكون حينئذ للعقل اسم ولا رسم ، فالعلم غاية العقل ، والعقل وسيلة فهم العلم وبقدر الفهم يكون الاقتراب من العلم ، ولذلك فالعلم هو ما روي عن آل محمد(ص) حيث ورد (عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ(ع) ؛ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ كُتُبِ بَنِي فَضَّالٍ فَقَالَ : خُذُوا بِمَا رَوَوْا وَذَرُوا مَا رَأَوْا.)(وسائل الشيعة:8/102) .
إذن فما شاع من فهم (تفسير القرآن بالقرآن) لدى المفسرين هو في واقعه وهم نتائجه تحكيه ، فهذا المنهج الشائع لدى من توهم إمكان تفسير النص (اللغوي الصامت) بالنص (اللغوي الصامت) ، هو مغالطة واضحة كمغالطة من (فسر الماء بعد الجهد بالماء) ، وكذلك هذا اللون من التفسير هو من قبيل ما وصفه أهل البيت(ص) (عن أبي عبد الله(ع) قال ؛ قال أبي : ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر)(منية المريد ، معاني الأخبار وغيرها من المصادر التي تحكي ذلك) ، لأن هذا اللون من التفسير هو تصريح واضح باستغناء الناس عن حجة الله القائم بالكتاب ، العامل به ، المبين له ، ومن ثم الفصل بين القرآن والعترة والتفريق بينهما ، بل على وفق هذا المنهج يتم استبعاد حجة الله سبحانه تماما ، مادام تفسير النص (الصامت) بضرب بعضه ببعض ممكناً ، فالحاجة تكون للناطق ترفية ، بل ويمكن الاستغناء عنه تماما ، وهذا ما هو حاصل اليوم حيث فـُرِّقَ بين القرآن (الصامت) و (الناطق) ليبتدع الناس مناهج في تفسير الصامت وعلى وفق ما يشتهون ويريدون ، متوهمين بذلك أنهم قادرين على تحصيل رضا رب الكتاب بذلك ، ومتناسين تماما أن رضا الله سبحانه لا يتحصل إلا عندما تأتيه الناس من الباب الذي أمرهم أن يأتوه منه ، قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(البقرة/189) ، والأهلة هي أدلة ، والأبواب هي سبل الله التي أمر خلقه أن يأتوه من خلالها ، والأهلة والأبواب هم حجج الله سبحانه الذين نصبهم على الخلق ، وجعلهم ترجمان كتابه ، ومبينة أحكامه ، وهم من أنزل بهم الوصية كتابا مختوما من السماء في ليلة وفاة رسول الله(ص) فأملاها رسول الله(ص) على علي(ص) ، فكانت حجة الله سبحانه بالغة وتامة على الخلق ، بإنزال منهج وحفظة ، قال تعالى {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}(النساء/165) .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى