غير مصنف

ثقافة الصورة

من بين الوسائل التي تصطنعها مؤسسة المرجعية للترويج لرجالاتها تشكل الصورة الوسيلة الأهم ، فلا تكاد تجد جداراً لا تعكر صفاء بياضه صورة من الحجم الكبير أو الصغير لوجه مشوه أو لحية شعثاء .

في إطار ثقافي تحكمه شروط خاصة كالإطار الثقافي العراقي يمكن رصد وظيفتين مهمتين تنجزهما الصورة ، والوظيفتان كلاهما تعتمدان على الطبيعة المكانية للصورة التي تمنح وجودها ديمومة وحضوراً مستمراً .
الوظيفة الأولى تتمثل بخلق علاقة إلفة بين صاحب الصورة وما يرمز له من فكر وبين الناظر ، فعلى سبيل المثال كان السخط الشعبي في زمن الطاغية صدام على أشده ، وكان أكثر الناس لا يطيقون أي شئ يشير الى صدام ونظامه ، ولكن الصور الكثيرة التي تملأ الطرقات كانت تلعب دوراً خفياً في التخفيف من حدة النفور من صدام ، لأن وجودها الدائم الذي يصطدم به النظر أينما اتجه ، وإن كان يتسبب للوهلة الأولى بمضاعفة حالة السخط ، إلا أنه مع مرور الأيام وتكرر حادثة النظر تبدأ النفس – كآلية دفاعية – بدفع الألم عن طريق الإعتياد وتحقيق نوع من التصالح مع الفضاء الخارجي ، وبكلمة واحدة تحقق الصورة هدفاً يتطلع إليه دهاة الإعلام يتمثل بإيصال الناس الى التعامل مع ما ترمز له الصورة على أنه أمر واقع ، بل إن أمراً غريباً قد يتحقق وهو أن تحور النفس ألمها الى شعور باللذة فتبدأ تبحث في الصورة عن ما يسرها جمالياً مثلاً ، فيتحول السخط الى ارتياح !
أما الوظيفة المهمة الثانية التي تنجزها الصورة فهي تعويض الغياب الفعلي ، أو الغياب عن الساحة الواقعية لصاحب الصورة ، واستبدال هذا الغياب بحضور وهمي فالسيستاني مثلاً الذي يمثل غيابه الإنطباع الأسرع حضوراً في الذهن يسجل يومياً حضوراً شبحياً من خلال صوره المنتشرة في كل مكان ، فيستحيل غيابه الأسطوري الى حضور دائم .. حضور يقف حائلاً دون التساؤل عن سر غيابه الذي أضنى العقول .
والحق إن المسألة في عمقها البعيد تمثل محاولة من فقهاء آخر الزمان لإعادة الوثنية القديمة بثوب جديد ، ورد عن الصادق (ع) : (( إياكم والتقليد فانه من قلد في دينه هلك ، إن الله تعالى يقول { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } (التوبة :31) . فلا والله ما صلوا لهم ولا صاموا ولكنهم احلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا وقلدوهم في ذلك فعبدوهم وهم لا يشعرون )) ، وعن الصادق (ع) : (لينصرن الله هذا الأمر بمن لا خلاق له، ولو قد جاء أمرنا  لقد خرج منه من هو اليوم مقيم على عبادة الأوثان) ( بحار الأنوار ج52: 392 ) . ومن ربط الحديثين يتضح أن إقامتهم على عبادة الأوثان تعني تقليدهم لهؤلاء الفقهاء الذين زيفوا الدين تبعاً لأهوائهم وأهواء أسيادهم  ، فما يريده فقهاء آخر الزمان إذن هو عبادة الأشخاص ، أو الوثنية الجديدة .
  هذه الحقيقة يدركها دهاقنة السياسة والإعلام ، ويعلمون جيداً أن العراقيين تشربوا هذه الثقافة الوثنية ، ومن هنا فهم يعلمون عدم حاجتهم الى ما يحركون به الشعب أو يبقونه تحت عبوديتهم أكثر من التلويح بالصورة التي تنطق بكل شئ في الوقت نفسه الذي لا تنطق فيه بشئ أبداً . وهكذا غير مهم في الثقافة الوثنية أن ترتكب أشنع الأخطاء أو تناقض نفسك أشد التناقض ، لأنك ببساطة تملك المفتاح السحري الذي يسمح بتمرير فيل من خرم الإبرة ، وليس هذا المفتاح السحري سوى أنك الكاهن أو رجل الدين ( كما يسمونه في وقتنا ) ، الذي يعبر عن إرادة الوثن الصامت ، ولا يظنن أحد أن هذه الفكرة من باب السخرية الماكرة أو حتى التحليل العقلي ،  فهي بالأحرى واقع يتحرك في الطرقات والأسواق ويجد له مكاناً رحيباً بين جدران المنازل ، بل إنك لن تعدم له وجوداً في المزابل ( في المزابل توجد الكثير من الصور ووجودها هناك وإن كان يعبر عن ازدراء ، ولكنه يشير أيضاً الى حقيقة الإنتاج المتواصل للصور ) .
يكفي أن تعلق صورة على جدار أو في يافطة ( لاسيما إذا كانت للمرجع فلان ) ليفهم الناس كل الكلام الذي تريد قوله ، والكلام الذي لم تفكر فيه أصلاً ، لماذا ؟ لسبب بسيط هو أن الثقافة الوثنية ثقافة خرافة ، فالوثن الصامت الذي لا تُعرف إرادته يمكن للكهنة دائماً أن يزروا له إرادة تتفق مع مصالحهم ، وهكذا يكفي أن تضع صورة السيستاني ليعرف الجميع هويتك وأفكارك ومشاريعك المستقبلية ، ومنقلبك ومثواك ، أما كيف عرفوا كل هذا فهذا شئ تفهمه إن كنت مهتماً بدراسة الوعي الخرافي ، فالسيستاني شأنه شأن الوثن ( باعتبار أن أحداً لا يمكنه الزعم أنه ضبط السيستاني متلبساً بجريمة الكلام ) ، تستوعب جبته كل المتناقضات التي يمكن لكهنته استيحاءها من صمته الأبدي ، بل غالباً ما تكتسب هذه الإيحاءات لون القدسية السيستانية الفاقع .
سأسرد لكم الآن رواية تبين الكيفية التي نشأت بها عبادة الأوثان ، ولكم أن تقارنوا وتتأملوا : 
    (( عن جعفر بن محمد عليه السلام في قول الله عز وجل : {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } نوح23  قال : كانوا يعبدون الله عز وجل فماتوا فضج قومهم وشق ذلك عليهم ، فجاءهم إبليس لعنه الله فقال لهم : أتخذ لكم أصناما على صورهم فتنظرون إليهم وتأنسون بهم وتعبدون الله ، فأعد لهم أصناما على مثالهم فكانوا يعبدون الله عز وجل ، وينظرون إلى تلك الأصنام ، فلما جاءهم الشتاء والأمطار أدخلوا الأصنام البيوت فلم يزالوا يعبدون الله عز وجل حتى هلك ذلك القرن ونشأ أولادهم ، فقالوا : إن آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء ، فعبدوهم من دون الله عز وجل ، فذلك قول الله تبارك و تعالى : ” ولا تذرن وداً ولا سواعا ” الآية .  و عن بريد بن معاوية قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول في مسجد النبي صلى الله عليه وآله : إن إبليس اللعين هو أول من صور صورة على مثال آدم عليه السلام ليفتن به الناس ، ويضلهم من عبادة الله تعالى ، وكان ود في ولد قابيل وكان خليفة قابيل على ولده وعلى من بحضرتهم في سفح الجبل يعظمونه ويسودونه ، فلما أن مات ود جزع عليه إخوته وخلف عليهم ابنا يقال له : ” سواع ” فلم يغن غناء أبيه منهم فأتاهم إبليس في صورة شيخ فقال : قد بلغني ما أصبتم به من موت ود عظيمكم ، فهل لكم في أن أصور لكم على مثال ود صورة تستريحون إليها وتأنسون بها ؟ قالوا : افعل . فعمد الخبيث إلى الآنك فأذابه حتى صار مثل الماء ، ثم صور لهم صورة مثال ود في بيته فتدافعوا على الصورة يلثمونها ويضعون خدودهم عليها ويسجدون لها ، وأحب سواع أن يكون التعظيم والسجود له ، فوثب على صورة ود فحكها حتى لم يدع منها شيئا ، وهموا بقتل سواع ، فوعظهم وقال : أنا أقوم لكم بما كان يقوم به ود ، وأنا ابنه ، فإن قتلتموني لم يكن لكم رئيس ، فمالوا إلى سواع بالطاعة والتعظيم فلم يلبث سواع أن مات ، وخلف ابنا يقال له : ” يغوث ” فجزعوا على سواع فأتاهم إبليس وقال : أنا الذي صورت لكم صورة ود ، فهل لكم أن أجعل لكم مثال سواع على وجه لا يستطيع أحد أن يغيره ؟ قالوا : فافعل ، فعمد إلى عود فنجره ونصبه لهم في منزل سواع ، وإنا سمي ذلك العود خلافا ، لان إبليس عمل صورة سواع على خلاف صورة ود ، قال : فسجدوا له وعظموه ، وقالوا ليغوث : ما نأمنك على هذا الصنم أن تكيده كما كاد أبوك مثال ود ، فوضعوا على البيت حراسا وحجابا ، ثم كانوا يأتون الصنم في يوم واحد ، ويعظمونه أشد ما كانوا يعظمون سواعا ، فلما رأي ذلك يغوث قتل الحرسة والحجاب ليلا ، وجعل الصنم رميما ، فلما بلغهم ذلك أقبلوا ليقتلوه فتوارى منهم إلى أن طلبوه ورأسوه وعظموه ثم مات وخلف ابنا يقال له : يعوق فأتاهم إبليس فقال : قد بلغني موت يغوث ، وأنا جاعل لكم مثاله في شئ لا يقدر أحد أن يغيره قالوا : فافعل ، فعمد الخبيث إلى حجر أبيض فنقره بالحديد حتى صور لهم مثال يغوث فعظموه أشد مما مضى ، وبنوا عليه بيتا من حجر ، وتبايعوا أن لا يفتحوا باب ذلك البيت إلا في رأس كل سنة ، وسميت البيعة يومئذ لأنهم تبايعوا وتعاقدوا عليه ، فاشتد ذلك على يعوق فعمد إلى ريطة وخلق فألقاها في الحائر ، ثم رماها بالنار ليلا فأصبح القوم وقد احترق البيت والصنم والحرس وأرفض الصنم ملقى فجزعوا وهموا بقتل يعوق فقال لهم : إن قتلتم رئيسكم فسدت أموركم ، فكفوا فلم يلبث أن مات يعوق وخلف ابنا يقال له : نسر ، فأتاهم إبليس فقال : بلغني موت عظيمكم فأنا جاعل لكم مثال يعوق في شئ لا يبلى فقالوا : افعل فعمد إلى الذهب وأوقد عليه النار حتى صار كالماء ، وعمل مثالا من الطين على صورة يعوق ثم أفرغ الذهب فيه ، ثم نصبه لهم في ديرهم واشتد ذلك على نسر ، ولم يقدر على دخول تلك الدير فانحاز عنهم في فرقة قليلة من إخوته يعبدون نسرا ، والآخرون يعبدون الصنم حتى مات نسر ، وظهرت نبوة إدريس فبلغه حال القوم وأنهم يعبدون جسما على مثال يعوق ، وأن نسرا كان يعبد من دون الله ، فسار إليهم بمن معه حتى نزل مدينة نسر وهم فيها فهزمهم ، وقتل من قتل ، وهرب من هرب فتفرقوا في البلاد ، وأمر بالصنم فحمل وألقى في البحر ، فاتخذت كل فرقة منهم صنما ، وسموها بأسمائها فلم يزالوا بعد ذلك قرنا بعد قرن لا يعرفون إلا تلك الأسماء ثم ظهرت نبوة نوح عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده ، وترك ما كانوا يعبدون من الأصنام ، فقال بعضهم : لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا )) [ بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 3 – ص 250 وما بعدها ] .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى