أخبار سياسية منوعة

وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون!!!

بسم الله الرحمن الرحيم

تتحدث هذه المقالة عن المرتكز الثالث الذي تستند إليه الحكومة البشرية ، مع التنبيه إلى أن هذه الحكومة على اختلاف ألوانها وأشكالها هي لا تعلن عن تلك الركائز التي أشرنا إليها في المقالتين السابقتين (الكذب والجور) ،

وإنما هي ترسم خطوات عملها استنادا إلى تلك الركائز التي تجهد نفسها في أن تخفي آثارها عن نظر الجمهور ، حتى يبدو للناس وكأن ما تفعله تلك الحكومة هو الواقع المناغم لقانون الحياة ومسيرتها ، وكما بينا في المقالتين السابقتين أن مرتكز الكذب الذي تستند إليه الحكومة البشرية عموما يتمظهر في صبغة الخطاب المراوغ الذي تتخذه تلك الحكومة فتكون ثماره زخرفا من القول وزورا ، والمرتكز الثاني هو الجور الذي يتمظهر في العمل ؛ حركة وأداء ، وها نحن إلى بيان المرتكز الثالث للحكومة البشرية ألا وهو : الظلم ، وهذا المرتكز يتمظهر في ثمرة عمل تلك الحكومة وما يحصده الناس منها ، والظلم كما هو معروف مأخوذ من الظلمة ، والظلمة دالة الجهل ، وهي النقيض تماما للنور ، والنور دالة العلم والحكمة ، والنور مصدره (هو الله سبحانه) ، والظلمة مصدرها (أنا المخلوق) التي هي عدم قابل للوجود ، والذي جعل هذا العدم قابلا للوجود هو إفاضة نور الله سبحانه الخالق عليه بإرادته فصيره شيئا بعد أن لم يكن شيئا ، قال تعالى{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(يس/82) ، وأيضا من المعلوم لدى كل الناس ـ حتى أولئك الذين يظهرون الجحود بهذه الحقيقة ويحاولون جاهدين إقناع أنفسهم بما يتوهمون ـ أن الأمر والخلق لله سبحانه ، فهو المبدئ وهو المعيد .
ولو تأملنا وقعة الاعتراض الأولى على الخالق سبحانه كانت في عالم الملكوت عندما قال تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(البقرة/30) ، والذي يدقق النظر كأن إبليس(لع) هنا ليس في الملائكة وهذا مما يكشفه لون خطابهم ، فاعتراضهم كان عن قلة معرفة لا بدافع الحسد ـ وحاشاهم ـ بدليل أنهم لما استبان لهم عظيم ما يحمله آدم(ع) أقروا وسجدوا له امتثالا لأمر الله سبحانه ، ولذلك كان امتحان الملائكة بآدم(ع) امتحانا عظيما لا طاقة لهم به فاستبان لهم قصورهم في هذا الامتحان ، وطلبوا من الله سبحانه المغفرة ، فاستجاب لهم ربهم سبحانه ، أما إبليس(لع) فهو يعلم عظيم ما حمل آدم(ع) ولكنه أزرى بنفسه عندما حسده على ما حباه الله سبحانه به وكلفه إياه ، ولو تكلفه إبليس(لع) لما أطاقه ذاك أن إبليس عينه لم تكن على العبودية الحق بقدر ما كانت على المهلة والتمكين والسلطة ، فهو نظر إلى ما يعطى هذا المخلوق من التمكين والسلطة ، وغفل ثقل ما حُمِّل من مسؤولية العبودية لله سبحانه ، ولذلك كان اعتراضه وتمرده واضحا في حدث السجود ، ولو كان هو مع الملائكة في اختبار التنصيب لشملته المغفرة ، ذاك أن الملائكة لما استبان لهم عظيم حمل آدم(ع) عرفوا حجمهم وحجم قصورهم فطلبوا المغفرة وأنابوا إلى الله سبحانه ، أما إبليس فأفصح عن موقفه المخزي في المرحلة الأخيرة من الامتحان أي في مرحلة الطاعة ، فالملائكة اعترضوا في المرحلة الأولى للامتحان وهي مرحلة التنصيب ، وأذعنوا في المرحلة الثانية وهي مرحلة العلم واستبانتهم لما يحمل آدم(ع) ، وأطاعوا وأسلموا في المرحلة الأخيرة من الاختبار بالسجود لآدم(ع) امتثالا لأمر الله سبحانه ، إما إبليس فلم يكن له وضوح حال في المرحلتين الأولى والثانية ، ولكنه أفصح عن موقفه في المرحلة الثالثة والأخيرة من الامتحان فكانت عاقبته الخزي في الحياة الدنيا والآخرة ، ولما استبان له حاله سأل الله سبحانه الكريم الجواد أن يكافيه على ما كان يظهر من العبادة ، واستجاب الكريم طلبه فأعطاه ، قال تعالى {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ}(الحجر/36،37) ، فأعطي النظرة جزاء ما كان يظهر من عبادة ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}(فصلت/46) ، وما أوقع إبليس في هذه المصيبة هو أنه عندما عرض عليه ؛ إما النور أو الظلمة ، اغتر بعطاء ربه سبحانه فانحاز إلى (أناه) الظلمانية ، وأدبر عن نور الله سبحانه الذي أشرقت به طينة آدم(ع) وشرفت ، وهذا ما يكشفه اعتراف إبليس(لع) في مواقع بينها القرآن الكريم في قوله تعالى {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(الأنفال/48) ، فهذا النص الكريم يبين أن إبليس كان عالما ، ولكن علمه لم ينفعه ، بل قتله جهله وانحيازه إلى (أناه) ، ولقد تمثل خلق الأنا هذا في العباد جليا على طول مراحل الامتحان الإلهي بحجته في كل زمان سواء كان نبيا من الأنبياء(ع) ، أو وصياً من الأوصياء(ع) ، والذين نهجوا نهج إبليس وغشيتهم ظلمة الأنا دائما كانت مقالتهم (أنا خير منه) ، فهذا فرعون(لع) مع موسى(ع) يقول بصريح القول {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}(الزخرف/52) ، ومن قبله النمرود(لع) مع إبراهيم(ع) ، ومن قبلهم كل الأمم السابقة مع الحجج المنصبين من الله سبحانه ، دائما المقالة واحدة وإن تلونت التعابير ولكن دلالتها واحدة مفادها (أنا خير منه) ، وهذا التعبير يكشف عن مدى وقاحة المخلوق في حضرة الخالق سبحانه ، وعظيم صبر الخالق على المخلوق ، وفي الحالين موعظة عظيمة لمن ألقى السمع وهو شهيد .
فالظلمة هي الانحياز إلى (أنا) المخلوق ، والانفراط عن (أنا) الخالق المتمثلة بالعروة الوثقى التي جعلها الخالق سبحانه عصمة للمتمسكين بها من الوقوع في هاوية الجحيم ، ومن ينحاز إلى أناه على حساب الطاعة لربه سبحانه يكون ظالما حتما ، وأول ثمار ظلمه تجتنيها نفسه حيث يطرده الله سبحانه من ساحة قدسه ورحمته ويكله إلى هواه وظلمته تخبط به خبط العشواء ، فمثاله كحاطب ليل لا يدري على ما تقع فأسه!! وهذا الحال بقضه وقضيضه ما يقدمه لنا المشروع البشري في الحكم ، ومن أولى مغالطات ومفارقات أرقى ما وصلت إليه البشرية اليوم في نظرية الحكم وهي النظرية الديمقراطية ؛ إنها تجعل من الحاكم محكوما والمحكوم حاكما ، فهذه النظرية تزعم أن (الشعب) هو الحاكم حيث ينصب حاكما ، وإذا ما تم التنصيب يعود الحاكم (الشعب) محكوما ، ويصير الحاكم المنصب الذي كان قبل التنصيب محكوما هو صاحب القرار ، فأي حكمة في لعبة مضحكة كهذه ، وأين عقل العقلاء وهم يقبلون بشرعة هذا نظام عملها؟؟! مع الالتفات أننا نتحدث في الأصل ولم ندخل إلى التفاصيل ، هذا أولا ، وثانيا : من أين للشعب أن يضمن صلاح الحاكم المنتخب؟! بمعنى أن الشعب عندما ينصب حاكما لأي شيء ، ينصبه لكي يكون صادقا وعادلا ورحيما ، ويسوس البلاد بالرحمة ويقود العباد بالعدل ، وهذه الحالة ما هي إلا أمنية لا تتحقق مطلقاً ، وعدم تحققها لقصور النظام في أصله ، فنظام الحكم مستند إلى (أنا) قاصرة مقصرة ، تجهل أكثر مما تعلم ، ولا حظ لها من النور سوى أنها تعيش لتأكل ، وليس تأكل لتعيش ، فكل هم النظام الديمقراطي في الحكم هو أن يعيش الناس برفاهية ، وهو لا يمتلك إعطاءها لأن للرزق واهب غيره ، وأن يتحقق العدل بين الناس ، وتلك لا تكون لأن سيف العدل سيطال الحاكم حتما وهذا ما يدفعه عن نفسه بقوة فيقع في الظلم وتنخرم العدالة ، والعدل يتطلب إحاطة الحاكم بكل نواحي الحياة ، وهذا ما لا يتوفر في نظام الحكم الديمقراطي بل ولا يعد فيه أبدا .
إذن لماذا كانت الديمقراطية؟؟ وهذا سؤال ينبغي على كل المروجين لهذا النظام في الحكم أن يوجهوه إلى أنفسهم ، وسوف لا يجدون إجابة سوى الانتصار لأنا المخلوق على إرادة الخالق سبحانه ، ولذلك يلحظ الباحث المنصف أن دعاة الديمقراطية إذا ما وجه لهم هذا السؤال يهربون عن الإجابة عنه مباشرة إلى القول بأن الديمقراطية مطلب شعبي ، وإرادة الشعب فرضتها!!! وهذا جواب أغرب من إعلان التهرب عن الإجابة ، فمتى كانت للشعوب إرادة موحدة على الواقع؟؟!! وكيف تكون إرادتهم موحدة وهم أهواء متفرقة ، وإرادات تنطلق من (أنا) صاحبها؟! وهل كانت الديمقراطية مطلبا شعبيا حقا؟؟؟!!! أ ليست هي مطلب المنتفعين المتاجرين من طلاب السلطة ؛ ساسة ورجال دين ، حيث خدعوا عوام الناس بأن دعوهم إلى أمر يجهلونه ، فأجابتهم العامة ثقة ـ في غير محلها ـ بهم وليس استنادا إلى معرفة هذا القادم الجديد القديم وهو الديمقراطية ، فالناس رقصت للديمقراطية لا لأنها تعرفها بل الأكيد الذي تكشف عنه حركة المجتمعات يوميا أنها تجهل ما هي هذه الديمقراطية ، ومن أين ، والى أين؟؟!!! ولا يعرفون ما تريده منهم إلا من خلال مقالة سدنتها وأبواقهم المنتفعين من ورائها!!! وصورة الديمقراطية في كل شعوب العالم هي هكذا ، مع الالتفات إلى أن في الديمقراطية ملمح يشكل إغراء للناس أفرادا وجماعات ذاك هو ملمح تبادل السلطة سلميا ـ في ظاهر الأمر ـ ولكن يجهل الناس أن هذا الملمح معلق بخيط خفي تحركه أيادٍ في الخفاء لا تظهر ، بل تقاتل أن لا تظهر ، بدليل أن كل الممارسات الانتخابية في العالم تتهم بالتزوير ، لماذا؟؟!!! لأنها لم تلبي إرادة الناخب العلني بل هي تلبي إرادة من يدير العملية الانتخابية في الخفاء ، ولكن هذه اللعبة تبقى مغرية لعامة الناس وهي تعمل بجد على أن تجعل هذا الوهم يكبر في رؤوسهم على أن إمكان أن يكونوا على رأس السلطة أمر متاح ويمكن لأي فرد من أفراد الشعب أن يستودعه وسادته حلما ينام عليه ويصحو وهو في سكرته!!
أما الحكم في النهج الإلهي لا يلبي تلك الرغبة لدى الجمهور ، ذاك أن الحاكم في نهج الحكم الإلهي تنصيب من الله سبحانه ، والذي يبحث عن الحكمة ليتأملها في النهج الإلهي ، فمن ينصب هو السيد والحاكم الأصل وهو الله  سبحانه ، قال تعالى {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(آل عمران/26) ، والمنصب منه سبحانه مكلف بسياسة البلاد وقيادة العباد على وفق النهج الذي تعلمه من الله سبحانه ، وهذا النهج يكفل التعامل مع الواقع بكل تفاصيله على أساس المبادئ الثلاثة الآتية : الصدق ، والعدل ، والرحمة ، وهذه المبادئ ثابتة لا تنخرم أبدا ، ولا سبيل للتطاول عليها من أي أحد ، والناس على وفق ذلك النهج يلمسون العدالة الحقيقية لمس اليد ـ كما يقال ـ فلا فرق فيها بين الناس على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ومشاربهم إلا بالتقوى أي إلا بالاعتصام بالمشروع الإلهي والتمسك به والدفاع عنه ، وممارسته على أرض الواقع ، ففي مشروع الحكم الإلهي كل تفصيل من تفاصيل الحياة مكفول حقه ومراعى حظه ، وعلى العكس من ذلك ففي مشروع الحكم البشري ، وفي أرقى أطروحاته التي يعشها العالم اليوم بدأ الناس يجنون ثمار الديمقراطية ؛ قتل وهتك للحرمات ، سباق للتسلح بأفتك أنواع الأسلحة ، تخريب مهول للبيئة ، استثمار سيء جدا للموارد الإلهية التي وضعها الله سبحانه في أرضه مسخرة لعباده ، اقتصاد قائم على الاستغلال والقوة الباطشة ، والربح القبيح ، مجتمعات مفككة ومهلهلة لا رابط بين أفرادها سوى رابط المصلحة المادية ، مما فتح الباب على مصراعيه لتقع البشرية اليوم نهبة لأمراض الكآبة والتعقيدات النفسية الغريبة العجيبة ، وفي واحدة من الإحصائيات في إحدى الدول الديمقراطية المتقدمة وهي ألمانيا تشير التقارير الإحصائية إلى أن نسبة الانتحار فيها تفوق بأضعاف نسبة من يموتون بحوادث السير ، فضلا على هذا الانحلال الخلقي بداعي الحرية ، وهو في حقيقته تشريع لاستعباد المرء وإذلاله بشهواته الدونية الهاتكة لكرامته الإنسانية ، والقائمة تطول ، ولعل ابرز صورة لضياع حقوق الإنسان في هذا النظام نظام الحكم البشري هو وثيقة حقوق الإنسان التي هي عبارة عن حبر على ورق ، وقصيدة ملحمة أسطورية سطرتها يد إنسان فاقد لما يتوهم إعطاءه .
لقد تجلت ظلمة المشروع البشري في الحكم بأن جعل من الرعية نهبة للذئاب ، وأشد الذئاب فتكا للرعية هو ذئب الأنا الظلمانية التي أوصلت الناس في نهاية المطاف بعد أن استنفدت كل مراداتها المادية من الحياة ، واستغرقت في الشهوات فلم تجد نفسها بحاجة إلى شيء سوى الحاجة إلى وضع نهاية للحياة المادية المملة فتهرع إلى الانتحار وبصور متعددة ، وماذا يعني الانتحار؟؟!! يعني وضع نهاية لتلك المسيرة الانحطاطية لهذا المشروع الذي انتزع من الإنسان إنسانيته وحوله إلى بهيمة لا هم لها سوى إشباع رغبات البطن والفرج حسب ، وكل مخلوق بشري هو يدرك بالفطرة أن رسالته في الحياة ليست ممارسة الشهوات ، بل هناك ما هو أعظم ، ولذلك فهو عندما يلتفت إلى ابتعاده عن رسالته وأن النظام خدعه وضيعه ، يلجأ بيده إلى وضع حد لهذا الضياع المادي ليجد نفسه خسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى