زاوية العقائد الدينيةعقائد الشيعة

الإمام المجتبى أبو محمد الحسن بن علي سبط رسول الله المظلوم حتى من شيعت

هو الإمام أبو محمّد، الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام ) يُلقب بالمجتبى، والتقي، والزكي، والسبط، والطيّب، والسيّد، والولي… وأشهرها المجتبى.

ولد في 15 شهر رمضان 3ﻫ، في المدينة المنوّرة. أُمّه السيّدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وزوجته السيّدة خولة بنت منظور الفزارية، وله زوجات أُخر. توفي سلام الله عليه وعمره 47 سنة، وكانت إمامته 10 سنوات.

قال أنس بن مالك: لم يكن أحدٌ أشبه برسول الله(صلى الله عليه وآله) من الحسن بن علي وفاطمة(عليهم السلام). وكانت السيّدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) تلاعبه وتقول:

أشبه أباك يا حسن ** واخلع عن الحقّ الرسن

وأعبد إلهاً ذا منن ** ولا توالي ذا الإحن.

لمّا ولدت السيّدة فاطمة الإمام الحسن(صلى الله عليه وآله)، قالت لعلي(عليه السلام): «سمّه»، فقال الإمام(عليه السلام): «ما كنت لأسبق باسمه رسول الله(صلى الله عليه وآله)».

فلمّا جاء النبي(صلى الله عليه وآله) قال لعلي(عليه السلام): «هل سمّيته»؟ فقال: «ما كنت لأسبقك باسمه»؟ فقال(صلى الله عليه وآله): «ما كنت لأسبق باسمه ربّي عزّ وجلّ»، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرائيل أنّه قد ولد لمحمّد ابن فاهبط وأقرئه السلام وهنّئه، وقل له: إنّ علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمّه باسم ابن هارون، فهبط جبرائيل(عليه السلام) فهنّأه من الله عزّ وجلّ، ثمّ قال: «إنّ الله عزّ وجلّ يأمرك أن تسمّيه باسم ابن هارون». قال: «وما كان اسمه»؟ قال: «شبّر»، قال: «لساني عربي»، قال: «سمّه الحسن»، فسمّاه الحسن، ولم يكن يُعرف هذا الاسم في الجاهلية.

وجاء النبي(صلى الله عليه وآله)، فأُخرج إليه، فقال(صلى الله عليه وآله): «اللّهمّ إنّي أُعيذه بك وولده من الشيطان الرجيم»، ثمّ أذّن(صلى الله عليه وآله) في أُذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، وعقّ عنه قال: «بسم الله عقيقة عن الحسن»، وقال: «اللّهمّ عظمها بعظمه، ولحمها بلحمه، ودمها بدمه، وشعرها بشعره، اللّهمّ اجعلها وقاءً لمحمّد وآله». وحلق رأسه، وأمر أن يتصدّق بزنة شعره فضّة، فكان وزنه درهماً وشيئاً.

وكانت أُمّ الفضل زوجة العباس بن عبد المطّلب قد رأت رؤيا، قالت : قلت: يا رسول الله، رأيت في المنام كأنّ عضواً من أعضائك في بيتي، فقال(صلى الله عليه وآله): «تلد فاطمة غلاماً إن شاء الله، فتكفلينه». فوضعت فاطمة الحسن، فدفعه إليها النبي فأرضعته بلبن قثم بن العباس.

ومن أبرز الصفات التي تميّز بها الإمام الحسن(عليه السلام) صفات الكرم، فكان المال عنده وسيلة يسعى من خلالها إلى كسوة عريان، أو إغاثة ملهوف، أو وفاء دين غريم، أو إشباع جوع جائع.

ومن هنا عُرف(عليه السلام) بكريم أهل البيت، فقد قاسم الله أمواله ثلاث مرّات، نصف يدفعه في سبيل الله ونصف يبقيه له، بل وصل إلى أبعد من ذلك، فقد أخرج ماله كلّه مرّتين في سبيل الله ولا يبقي لنفسه شيئاً، فهو كجدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله) يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، وهو سليل الأسرة التي قال فيها ربّنا تعالى: (( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )). وآية أُخرى تحكي لسان حالهم: (( وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وأسيرا إنما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا )). وهو(عليه السلام) من الشجرة الطيّبة التي تؤتي أُكلها كلّ حين، فمن كريم طبعه (عليه السلام) أنّه لا ينتظر السائل حتّى يسأله ويرى ذلّ المسألة في وجهه، بل يبادر إليه قبل المسألة فيعطيه.

ومن وصاياه(عليه السلام):

1ـ قال(عليه السلام): «المِزَاح يأكلُ الهيبة، وقَدْ أكثرَ مِن الهَيبةِ الصامت».

2ـ قال(عليه السلام): «الفُرصَة سريعة الفوت بَطيئَةُ العَود».

3ـ قال(عليه السلام): «عَلِّم الناس عِلمَك، وتَعلّم عِلم غَيرِك، فتكون قد أتقنتَ عِلمَك وعَلِمت مَا لَمْ تَعلَم».

4ـ قال(عليه السلام): «القَريبُ مَن قرّبَتْه المَوَدّة وإن بَعُد نَسبُه، والبعيد من بَاعدَته المودّة وإن قرب نسبه، لا شيء أقرب مِن يَدٍ إلى جسد، وإنّ اليد تفل فتُقطع وتُحسم».

5ـ قال(عليه السلام): «رَأسُ العقل مُعَاشَرة الناس بالجميل».

وكان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يحب الإمام الحسن ( عليه السلام ) حباً جماً، قال رجل : خرج علينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لصلاة العشاء وهو حامل حسناً ( عليه السلام ) . فتقدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للصلاة ، فوضعه ( عليه السلام ) ثم كَبَّر وصلى ، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة فأطالها ، قال : فرفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو ساجد فرجعت إلى سجودي . فلما قضى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صلاته فقال الناس : يا رسول الله إنَّك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتَها ، حتى ظنَنَّا أنه قد حدث أمر وأنه يُوحَى إليك . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( كل ذلك لم يكن ، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أُعجله حتى ينزل ) .

ومن أجوبة الإمام الحسن ( عليه السلام ) لمبعوث ملك الروم: روي أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان في الرحبة ، فقام إليه رجل فقال : أنا من رعيتك وأهل بلادك ؟ قال ( عليه السلام ) : ( لست من رعيتي ولا من أهل بلادي ، وإن ابن الأصفر – يريد ملك الروم – بعث بمسائل إلى معاوية فأقلقته وأرسلك إليَّ لأحلَّها ) . قال الرجل : صدقت يا أمير المؤمنين ، إن معاوية أرسلني إليك في خفية وأنت قد اطلعت على ذلك ، ولا يعلمها غير الله. قال ( عليه السلام ) : (سل أحد ابنيَّ هذين). قال الرجل : أسأل ذا الوفرة – الوفرة : هي الشعر المتجمع على الرأس – يعني الحسن  عليه السلام) فأتاه . فقال له الحسن (عليه السلام) : ( جئت تسأل كم بين الحق والباطل ؟ وكم بين السماء والأرض ؟ وكم بين المشرق والمغرب ؟ وما قوس قُزَح ؟ وما المُخَنَّث ؟ ، وما عشر أشياء بعضها أشدّ من بعض) ؟ قال الرجل : نعم . قال الحسن (عليه السلام) : ( بين الحق والباطل أربع أصابع ، ما رأيته بعينك فهو حق وقد تسمع بأذنيك باطلاً وبين السماء والأرض دعوة المظلوم ، ومَدّ البصر ، وبين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس . وَقُزَح اسم الشيطان ، وهو قوس الله وعلامة الخصب ، وأمان لأهل الأرض من الغرق . وأما المُخَنَّث فهو الذي لا يُدرَى أذكر أم أنثى فإنه يُنتَظَرُ به ، فإذا كان ذكراً احتلم ، وإن كانت أنثى حاضت وبدا ثدييها ، وإلا قيل له : بُلْ ! فإن أصاب بوله الحائط فهو ذكر ، وإن انتكص بوله على رجليه كما ينتكص بول البعير فهو أنثى . وأما عشرة أشياء بعضا أشدّ من بعض ، فأشد شيء خلق الله الحجر ، وأشد منه الحديد يقطع به الحجر ، وأشد من الحديد النار تذيب الحديد ، وأشد من النار الماء ، وأشد من الماء السحاب ، وأشد من السحاب الريح تحمل السحاب ، وأشد من الريح الملك الذي يردها ، وأشد من الملك ملك الموت الذي يميت الملك ، وأشد من ملك الموت الموت الذي يميت ملك الموت ، وأشد من الموت أمر الله الذي يدفع الموت .

وكان عليه السلام يُحسن لِمَن أساءَ إليه، روي أنه ( عليه السلام ) وَجَد شاةً له قد كُسِرت رجلها ، فقال ( عليه السلام ) لِغُلامٍ له : ( مَنْ فَعَل هذا ؟) . فقال الغلام : أنا . فقال له ( عليه السلام ) : ( لِمَ ذلك ؟ ) . فقال الغلام : لأجلبَ لَكَ الهَمَّ والغَمَّ . فتبسَّم ( عليه السلام ) وقال له : ( لأُسِرُّك ، فأعتَقَه وأجزَلَ لهُ في العطاء ) .

وروي أن شامياً غَذَّاه معاوية بالحقد على أهل البيت ( عليهم السلام ) ، رأى الإمام ( عليه السلام ) راكباً ، فجعل يلعنه ، والحسن ( عليه السلام ) لا يردُّ عليه .

فلمَّا فرغ الرجل أقبل الإمام ( عليه السلام ) عليه ضاحِكاً وقال : ( أيها الشيخ ، أظنُّك غريباً ، ولعلَّك شُبِّهْتَ ؟ فلو استَعْتَبْتَنا أعتبناك ، ولو سَألتَنا أعطيناك ، ولو استرشَدْتَنا أرشدناك ، ولو استَحْملتَنَا أحملناك ، وإنْ كنتَ جائعاً أشبعناك . وإن كنتَ عرياناً كَسَوناك ، وإن كنتَ مُحتاجاً أغنيناك ، وإن كنت طريداً آويناك ، وإن كانَ لك حاجة قضيناها لك . فلو حَرَّكتَ رحلك إلينا ، وكنتَ ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعْوَد عليك ، لأنَّ لنا مَوضِعاً رحباً ، وجَاهاً عريضاً ، ومَالاً كثيراً ) . فلما سمع الرجل كلامه بكى ، ثم قال : أشهد أنَّك خليفة الله في أرضه ، الله أعلمُ حيث يجعل رسالته ، كنتَ أنتَ وأبوك أبغضُ خَلقِ الله إليَّ ، والآن أنتَ وأبوكَ أحَبُّ خلقِ الله إليَّ . ثم استضافه الإمام ( عليه السلام ) حتى وقت رحيله ، وقد تغيَّرت فكرته ، وعقيدته ، ومفاهيمه ، عن أهل البيت ( عليهم السلام ) . وفي هذا التصرف منه ( عليه السلام ) درسٌ تربوي في كيفية التعامل مع الطرف الآخر ، حتى لو كان خصماً . وهذا النحو من المعاملة مُستَفَادٌ من القرآن الكريم ، وذلك في قوله تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) فُصِّلت : 34 .

صلحه مع معاوية:

قَبِل الإمام الحسن ( عليه السلام ) الصلح مع معاوية للأسباب التالية :

السبب الأول :

إن نظرة أهل البيت ( عليهم السلام ) إلى الحكم كانت تنبع من أنه وسيلةً لتحقيق قيم الرسالة . فإذا مالَ الناس عن الدين الحق ، وغلبَت المجتمع الطبقات الفاسدة ، وأرادت تحويل الدين إلى مطية لمصالحهم اللاَّمشروعة فليذهب الحكم إلى الجحيم ، لتبقى شعلة الرسالة متّقدة ، ولتصب كلُّ الجهود في سبيل إصلاح المجتمع أولاً ، وبشتى الوسائل المُتاحة . وقد أشار الإمام علي ( عليه السلام ) لهذا قائلاً : ( والله ما معاوية بأدهى منِّي ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس . ولكن كلّ غُدرة فُجرة وكلّ فُجرة كُفرة ، ولكلِّ غادرٍ لواءٌ يُعرف به يوم القيامة ، والله ما استُغفِل بالمكيدة ، ولا استُغمِز بالشديدة ) .

أما عن نظرته ( عليه السلام ) إلى الحكم ذاته ، فقد رُوي عن عبد الله بن العباس أنه قال : دخلت على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يخصف نعله ، فقال ( عليه السلام ) لي : ( مَا قِيمَة هذا النعل ) ؟ فقلت : لا قِيمَة لها . فقال ( عليه السلام ) : ( والله لَهِيَ أحبُّ إليَّ من إمرتكم ، إلاَّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً ) .

السبب الثاني :

لقد عاش الإمام الحسن ( عليه السلام ) مَرحلة هبوط الروح الإيمانية عند الناس ، وبالذات في القبائل العربية التي خرجت من جَوِّ الحجاز ، وانتشرت في أراضي الخير والبركات ، فنسيت رسالتها أو كادت .

فهذه كوفة الجند التي تأسست في عهد الخليفة الثاني لتكون حامية الجيش ، ومنطلقاً لفتوحات المسلمين الشرقية ، أصبحت اليوم مركزاً لصراع القبائل ، وتسيس العسكر ، وأخذ يُتبَع من يُعطِي أكثر . فبالرغم من وجود قبائل عربية حافظت على ولائها للإسلام والحق ، ولخط أهل البيت (عليهم السلام) الرسالي ، إلاَّ أنَّ مُعظم القبائل التي استوطَنَت أرض السواد حيث الخصب والرفاه بدأت تبحث عن العطاء . حتى أنَّهم تفرّقوا عن القيادة الشرعية ، وبدأوا يراسلون المتمردين في الشام حينما عرفوا أنَّ معاوية يبذل أموال المسلمين بلا حساب . بل إنَّك تجد ابن عمِّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) عبيد الله بن العباس قائد قوَّات الطليعة في جيشه ( عليه السلام ) يلتحق بمعاوية طَمَعاً في دراهمه ، البالغة مليون درهمٍ . ونجد الكوفة تَخون مرة أخرى الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، حينما يبعث إليهم ابن عَمِّه مسلم بن عقيل ، فيأتيهم ابن زياد ويمنِّيهم بأن يزيد في عطائهم عشرة . فإذا بهم يميلون إليه ، ويُقاتلون سِبط رسول الله وأهل بيته ( صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ) بِأبْشَع صورة . ودون أن يسألوا ابن زياد عمَّا يعنيه بكلمة ( عشرة ) ، فإذا به يزيد في عطائهم عشرة تُميرات فقط ، ولعلَّهم كانوا يمنون أنفسهم بعشرة دنانير . لقد تعبت الكوفة من الحروب ، وبدأت تفكر في العيش الرغيد ، وغاب عنهم أهل البصائر الذين كانوا يحومون حول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ويذكِّرون الناس باليوم الآخر ، ويبيِّنون للناس فضائل إمامهم الحق . لقد غاب عنهم اليوم عمَّار بن ياسر الذي كان ينادي بين الصفيْن في معركة صِفِّين : الرواحَ إلى الجنة .ومالك الأشتر الذي كان لعليٍ ( عليه السلام ) مثلما كان عليٌّ لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بطلاً مقداماً ، وقائداً ميدانيّاً مُحنَّكاً . وغاب ابن التيهان الذي يعتبره الإمام علي ( عليه السلام ) أخاً له ، ويتأوَّه لغيابه . بلى ، لقد غاب أهل البصائر من أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وأنصار علي ( عليه السلام ) ، الذين كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يعتمد عليهم في إدارته للحروب . وغاب القائد المقدام ، البطل الهمام ، الإمام علي (عليه السلام) أيضاً ، بعد أن أنهى سيف الغدر حياته الحافلة بالأسى .

فإنه (عليه السلام) كان قد صعد المنبر قبيل استشهاده ، وقد نشر المصحف فوق رأسه ، وهو يدعو ربّه ويقول : ( مَا يُحبَس أَشقاكم أن يَجيء فيقتلني ، اللَّهُمَّ إني قد سئِمتُهم وسئِمُوني ، فأَرِحْهم منِّي ، وأَرِحْني مِنهم ) . وبالرغم من أن الإمام عليّاً كان قد جهَّز جيشاً لمقارعة معاوية قبيل استشهاده ، وهو ذلك الجيش الذي قاده من بعده الإمام الحسن ( عليه السلام ) . إلاَّ أنَّ خَور عزائم الجيش ، واختلاف مذاهبه ، وخيانة قُوَّاده ، كان كفيلاً بهزيمته ، حتى ولو كان الإمام علي ( عليه السلام ) هو الذي يقوده بنفسه. إلاَّ أن التقدير كان في استشهاد البطل ، وأن يتمَّ الصلح على يد نَجلِه العظيم الذي أخبر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، أنَّ الله سوف يُصلح به بين طَائِفَتين من أُمَّته . ويشهد على ذلك ما جاء في حديث مأثور عن الحارث الهمداني ، قال : لما مات علي ( عليه السلام ) جاء الناس إلى الحسن ( عليه السلام ) وقالوا : أنت خليفة أبيك ووصيِّه ، ونحن السامعون المطيعون لك ، فمرنا بأمرك . فقال ( عليه السلام ) : ( كَذبتُم ، والله ما وفيتُم لِمَن كان خيراً منِّي ، فكيف تَفُون لي ؟ ، وكيف أطمئنُّ إليكم ولا أثق بكم ؟ إن كنتُم صادقين فموعدٌ ما بيني وبينكم مُعَسكر المدائن ، فَوافوا هناك) . وماذا كان يمكن للإمام الحسن ( عليه السلام ) أن يصنعه في مثل هذه الظروف المعاكسة ؟ فهل يسير في جيشه بسيرة معاوية ، ويوزع عليهم أموال المسلمين ، فمن رغب عنه عالجه بالعسل المسموم ؟ أم يسير ( عليه السلام ) بسيرة أبيه حتى ولو كلَّفه ذلك سُلطته . لقد ترك ( عليه السلام ) السلطة حين علم بأنها لم تعد الوسيلة النظيفة لأداء الرسالة ، وأن هناك وسيلة أفضل وهي الإنسحاب إلى صفوف المعارضة ، وبَثِّ الروح الرسالية في الأمّة من جديد ، عبر تربية القيادات ، ونشر الأفكار ، وقيادة المؤمنين الصادقين ، المعارضين للسلطة ، وتوسيع نطاق المعارضة ، وهكذا فعل ( عليه السلام ) .

السبب الثالث :

إن شروط الصُلح التي أملاها الإمام ( عليه السلام ) على معاوية ، وجعلها مقياساً لسلامة الحكم ، تشهد على أنه ( عليه السلام ) كان يخطط لمقاومة الوضع الفاسد ، ولكن عبر وسائل أخرى . لقد جاء في بعض بنود الصُلح ما يلي :

1 – أن يعمل معاوية بكتاب الله وسُنَّة رسوله ، وسيرة الخلفاء الصالحين. والمراد من الخلفاء الصالحين ليس فلان وفلان، بل من تتحقق بهم صفة الخلافة الصالحة من الأنبياء والأوصياء.

2 – ليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً بل يكون الأمر من بعده له ( عليه السلام ) ثم لأخيه الحسين ( عليه السلام ) .

3 – الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله ، في شَامِهِم ، وعِرَاقِهم ، وحِجَازهم ، ويَمَنِهم .

4 – أنَّ أصحاب عليٍّ وشيعته آمنون على أنفسهم ، وأموالهم ، ونسائهم ، وأولادهم .

5 – أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله ( صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ) غائلة ، لا سِرّاً ولا جهراً ، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق .

فإن نظرة خاطفة لهذه الشروط تهدينا إلى أنها اشتملت على أهم قواعد النظام الإسلامي من دستورية الحكم على هدى الكتاب والسُّنَّة .

وأنه مسؤول عن توفير الأمن للجميع ، وبالذات لقيادة المعارضة ، وهم أهل بيت الرسول ( صلى الله عليه وآله ) . كما إنها كفيلة بكشفه أمام الناس لأنه لا يقوى عليها أبداً. 

قُتل(عليه السلام) مسموماً على يد زوجته جُعدة بنت الأشعث الكندي بأمر من معاوية بن أبي سفيان. قال الشيخ المفيد: إن معاوية « ضمن لها أن يزوّجها بابنه يزيد، وأرسل إليها مائة ألف درهم، فسقته جعدة السم».

وجاء موكب التشييع يحمل جثمان الإمام (عليه السلام) إلى المسجد النبوي ليدفنوه عند رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وليجدِّدوا العهد معه، على ما كان قد وصّى به الإمام الحسين(عليه السلام). فجاء مروان بن الحكم وبنو أُميّة شاهرين سلاحهم، ومعهم عائشة بنت أبي بكر وهي على بغل، إلى الموكب الحافل بالمهاجرين والأنصار وبني هاشم وسائر المؤمنين في المدينة. فقال مروان: يا رُبّ هيجاء هي خير من دعة! أيُدفن عثمان بالبقيع، ويُدفن حسن في بيت النبي! والله لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف. وقالت عائشة: والله، لا يدخل داري من أكره، أو قالت: مالي ولكم؟ تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب.

ولولا وصية الإمام الحسن (عليه السلام) لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) أَلّا يُراق في تشييعه ملء محجمةِ دمٍ، لَمَا ترك بنو هاشم لبني أُميّة في ذلك اليوم كياناً. لذا ناداهم الإمام الحسين (عليه السلام) قائلاً: «الله الله لا تضيِّعوا وصية أخي، واعدلوا به إلى البقيع، فإنّه أقسم عليّ إن أنا مُنعت من دفنه مع جدِّه أن لا أُخاصم فيه أحداً، وأن أُدفنه في البقيع مع أُمِّه». هذا وقبل أن يعدلوا بالجثمان، كانت سهام بني أُميّة قد تواترت على جثمان الإمام (عليه السلام)، وأخذت سبعين سهماً مأخذها منه.

( صحيفة الصراط المستقيم/العدد 26 /السنة الثانية/ في 18 / 1 / 2011 م /13 صفر 1432 هـ )

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى