زاوية العقائد الدينية

أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً!

بسم الله الرحمن الرحيم

أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً!  لم يكن بعث النبي محمد(ص) حدثا تاريخيا هامشيا ، على الرغم من كل الأساليب التي ابتدعت لجعله كذلك ، حيث أن بعثه (ص) وجه مسيرة الحياة بالاتجاه الذي يريده الله سبحانه بهذه الأرض حيث أقام للأرض وفيها نظاما للحاكمية وقانونا ثابتاً لا يتغير ولا يتبدل عندما جعل تنصيب الحاكم أمراً منوطاً به سبحانه فهو ملك الأرض ومالكها

، وله حق التصرف بها وتسييسها على وفق ما يراه صالحا للغاية التي من أجلها أوجدها وخلق الخلق عليها ، وقانون الخلافة الإلهية على الأرض ليس جديداً بل هو قديم جديد فهو قد شرعه الله سبحانه مع الخليفة الأول القائم بأمره سبحانه وهو آدم(ع) وصولا إلى زمن رسول الله(ص) وبعد كل فترة ينزل الله فيها سبحانه شريعة حاكمة وقائما بها يختبر ويبتليهم بضرورة اتباعه لضمان النجاة في الدنيا والفوز بالآخرة ، وهذا المنطق لم يتبدل ولم يتغير بل كان ثباته حجة للقادمين رسلا مبشرين ومنذرين باسم الله سبحانه ، غير أن البشرية كانت تصر في كل مرة على إعمال فكرها قبال المشروع الإلهي لتكلف نفسها ما لا طاقة لها به مع أن الحق سبحانه لم يكلفها بذلك رحمة بها ورأفة منه بحالها وهو القائل سبحانه{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}(البقرة/286) ، وكانت في كل مرة لتقوم بتلك الخطوة تتورط بدءاً في محاربة المبعوثين رحمة للناس وتحاول رمي ما جاؤوا به بالسحر لتزرع الشك في النفوس ، ثم تتهمهم بالشعر والكهانة لتجعل لهم أندادا ، والمرحلة الأخيرة تتهمهم بالجنون لتسقطهم في أعين الناس وتمهد لتصفية أبدانهم الطاهرة بعد أن استمالت السواد من الناس من خلال استعمال سياسة الجهل التي تبدأ بالتشكيك وتنتهي بالقتل النفسي وهو أعظم من القتل البدني ، ذلك لأن المبعوث من الله سبحانه لم يأت ليحيي الأبدان بل جاء ليحيي الأنفس ، فالذي يعمد إلى قتل تلك النفس المبعوثة لإحياء الناس فهو كأنما قتل الناس جميعا ، قال تعالى{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}(المائدة/32) ، فالرسول(ص) أرسى قانون الحكم الإلهي الذي لا يتغير ولا يتبدل القائم على أن الحاكم تنصيب إلهي محض وليس للناس فيه ولو جزء من نصيب ، والشريعة تنزيل إلهي ليس للناس أن يكتبوها بأيديهم ولذلك فالحق حذرهم من ذلك ولكنهم لم يكترثوا ففعلوا ما حذرهم منه حين قال عز وجل {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}(البقرة/79) ، ومثلما علمنا بحسب ما ورد عن أهل البيت(ص) ؛ أن القرآن نزل بلغة إياك أعني واسمعي يا جارة ، فيكون الكلام فيه ـ كما يصرح جملة من المفسرين ـ موجه إلى بني إسرائيل ، غير أن بني إسرائيل أمة مضت فهي ليست أكثر من مثل لتحذير من نزل الكتاب فيهم وهم أمة محمد(ص) ، وكذلك ورد عن رسول الله(ص) ـ ما معناه ـ (إن الأمة ستحذو حذو الأمم السابقة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة) فقتل النفس بغير نفس ، وفعل الفساد هو تحذير للأمة الإسلامية ولكنها بفهم جاهلي غريب راحت تكيل ما في القرآن للأمم السالفة وتنزه نفسها عن ذلك مع أن واقعها يفضح هذا الانفصام الذي تعانيه نفسية المسلم فهو يقرأ القرآن ويلعن نفسه من دون أن يلتفت ، ولو كان يفهم أو يلتفت لما قرأ القرآن حتى أقامه في نفسه كما أراد له الله سبحانه شريعة حاكمة جملة وتفصيلا .
إن فعل المفسرين في جعل ما ورد من بيان لمواقف الأمم السالفة المعطلة لشريعة الله سبحانه منوطا بهم من خلال قصر الخطاب عليهم وأن هذا الخطاب منزه عنه المسلمون هو ما جعل أمة المسلمين تقع فيما حذرها الله سبحانه منها وهذا واضح ـ للأسف ـ حتى في خطاب المسلمين اليوم فهم على الرغم من ضلالهم وانحرافهم عن سبيل الله سبحانه ما زالوا يتوهمون أنهم هم المتقون وهم المؤمنون ، ويكيفون الإيمان والتقوى بحسب ما يشتهون وكأنهم ـ تماما كما وصف آل محمد(ص) من حال الناس في آخر الزمان ـ أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ، فيعطفونه على أهوائهم ويقولونه بحسب ما يشتهون وعلى وفق ما يريدون ، فالإحسان لديهم هو إحسان للسلطة وللشعب وللدولة وللمواطنة ـ بحسب ما يقول المالكي وهو يخاطب الناس في أكثر من مناسبة ، والمالكي هنا بوصفه مثلا من أمثلة انحراف الفكر المسلم عن حقيقة ما أراده الله سبحانه في خطابه الذي أنزله للناس شريعة حاكمة ـ وكذلك التقوى فهي مصطلح فاعل في اقتصاد الدولة وسياستها وأمنها واجتماعها على الرغم من أن تلك الدولة لا تقوم على ما قام عليه مصطلح التقوى القرآني ، بل أن دولة المالكي ـ بوصفها مثلا ظاهرا ـ قائمة على ما يعطل القرآن ويهمشه ، بل ويبعده تماما عن ساحة الفعل الواقعي لذا فأي معنى يبقى لاستشهاد المالكي بقوله تعالى{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}(النحل/128)؟؟؟!!! وهو من شرع في قتال من رفعوا القرآن شعاراً واتخذوه دثاراً وخيمة لإقامة حاكمية الله سبحانه!!! عن أي تقوى يتحدث المالكي ودولته تسبح في مستنقع الفساد وهو لا يحرك ساكناً لأنه يخشى أن تتغير توازنات القوى التي أجلسته على كرسي ما كان ولن يكون في يوم من الأيام لائقا به ولا بأمثاله؟؟؟!!! وعن أي إحسان يريد المالكي إقامته ودولته قائمة على الفساد وترى فيه سبب ديمومتها وعمادها الذي تقوم عليه؟؟؟!!! لقد انفضح الذين لبسوا عباءة الإسلام ليأكلوا به الدنيا ، ذاك أن عباءة الإسلام بدت فضفاضة عليهم وكشفت مدى ضآلتهم وحقارة شأنهم حتى غدوا أضحوكة لأولئك الذين حسموا أمرهم في معاداة الدين ، والمطالبة علنا في اعتقاله وحبسه في دور العبادة لا يغادرها خارجا مطلقاً ، ذاك أن أولئك وجدوا أنفسهم أكثر شجاعة في الاختيار من زمر الأحزاب التي تتخذ من الإسلام عباءة لتموه على الناس مآربها وتدعي ما ليست ألا له ، بل وما هي غير جديرة به ، حيث انكشف نفاقها فهي مذبذبة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء تماما كما وصف حالها القرآن بقوله تعالى{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}(النساء/143) فلسانهم ينطق بمنطق الإيمان ، وأعمالهم تفصح عن هوية كفرهم بما يقولون ، بينما أقرانهم من الأحزاب العلمانية فهم يتوحدون مع منطق الكفر قولا وعملا ، ولذلك وجد فيهم السواد الأعظم أكثر مصداقية في الخطاب ، فهم يقولون برأيهم ويعملون برأيهم ، والدين لا مجال له سوى في دور العبادة حسب وعليه أن يقبل بذلك ، وهم بالمقابل يضمنون له حياة مدعومة ، وتعاقدوا على ذلك مع رجال الدين وقبل أولئك ما اشترطت عليهم الدولة الحديثة ، بل وهم سعداء بذلك حيث أصبح الدين وجودا ديريا وكنسيا وحوزوياً حسب ، فهو مؤسسة حاله حال مؤسسات الدولة تقع على عاتقه مسؤولية الترويج لنظام الدولة ، وإصدار الفتاوى بتجريم الخروج عليها ، بل وتحريم الخروج عليها بوصفها عقد بين المتعاقدين أخذت شرعيتها من عقديتها ، فالعقد شريعة المتعاقدين!!!
وعند ذلك يكون على الدين بوصفه مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني مسؤولية الحفاظ على كل ما تثمر عنه تلك الدولة ، ومن ثم تغيب ملامح الدين بوصفه دينا ويتحول إلى منظومة أخلاقية غير ملزمة ولا حياة فيها ولها ، كالذي نلحظه اليوم على الدين الكنسي فهو ليس أكثر من مؤسسة لغفران الخطايا وغسلها ، وليس لتحصين الأنفس من الوقوع فيها!!!
إن المحاولات الكثيرة لتزييف الثابت الذي يقوم عليه الدين وهو الحاكمية ، أثمرت اليوم عن وجود ما يسمى (الفكر الديمقراطي) الذي يرى أن أفضل صيغ الحاكمية الممكنة لقيام دولة تتوفر فيها ـ بحسب ما يتوهم ـ أسس العدالة والعيش الكريم هي حاكمية الشعوب فشرعت تضع لها قانونا يقابل القانون الإلهي وجعلت من الحاكمية هي المتغير ، وافترضوا أن المتغير وهو الناس ثابتا ، والثابت وهو الدين متغيراً على وفق أحوال الناس وواقعهم ، واستناداً إلى ذلك صار على الدين الذي لم تتمكن حاكمية الناس من إلغائه تماما من المعادلة لأنه أصل متجذر في الشخصية الإنسانية ، وليس دخيلا عليها ، بل هو أصل في بنائها ، وما محاولات تهميشه وتغييبه إلا شاهد على ذلك ، صار هو المتغير ، وتوفر لتلك السياسة فقهاء ورجال دين نجحوا في استقطاب الناس وخداعهم على أنهم حماة الدين والقائمين عليه ، فراحوا يفسرون الدين بآرائهم وأهوائهم ، حتى وصل الحال اليوم بعد أن نجحت تلك السياسة في تهميش سنة الرسول(ص) واستبعادها تماما من معادلة الحضور في الواقع بذرائع التشكيك فيما وصل من تلك السنة على ألسنة الرجال ، نجد اليوم أصواتا عالية تطالب بتهميش آيات الجهاد من كتاب الله سبحانه بدعوى أنها السبب المباشر في التحريض على العنف ، وإشاعة ما يسمونه اليوم بـ(الإرهاب) ، ولذلك على رجال الدين أولئك العمل على إيجاد سبل يغيرون من خلالها مناهج التعليم وذلك باستبعاد تلك النصوص الداعية إلى العنف بحسبهم ، وما إن صدر ذلك الفرمان حتى وجدنا آلة رجال الدين تتحرك بالاتجاه الذي أشارت إليه حاكمية الناس ، وبالفعل بدأ العمل على تليين الشريعة وتمييعها وخلق جوٍّ من الأخذ والردِّ في ذلك الموضوع الذي كان إلى وقت قريب من الثوابت التي لا يختلف عليها اثنان من أهل الإسلام على اختلاف طوائفهم ومللهم ونحلهم فصرنا نلحظ اليوم تكييفا جديدا لمفردة (الجهاد) حيث تحولت المفردة من ميدان القتال بالقلب واللسان والسنان ، إلى رفع جزئية السنان الذي هو مظهر الجهاد وفاعليته ، ليصبح الجهاد الممكن هو جهاد القلب ، وإذا ما أراد بلوغ الذروة فهو يصل إلى اللسان لا يتعداه ، وإن تعداه إلى السنان صار الجهاد إرهابا وعنفا مرفوضا حتى على لسان أولئك الفقهاء الضالين المضلين الذي أسكرتهم الدعة والراحة وحب الدنيا فغدوا سكارى حيارى لا يعلمون إن كانوا هوداً أو نصارى!!!
ناهيك عن العبث في جملة من ثوابت العقيدة الإسلامية ، بل تحولت العقيدة الإسلامية اليوم بلا ثوابت فكل ما فيها خاضع للنقاش والجدل وليس فيها من ثابت يجتمع عليه الناس ليتحاوروا حواراً مثمراً ، وغفلوا تماما عن قول الله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(النساء/59) ، وابتدأت الغفلة تلك عندما غفلوا عن قراءة الآية الكريمة قراءة نافعة منتجة ، حيث ورد عن [علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن اذينة ، عن بريد بن معاوية قال : تلا أبو جعفر (عليه السلام) : {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن خفتم تنازعا في الأمور فأرجعوه إلى الله وإلى والرسول وإلى أولي الأمر منكم} ، ثم قال : كيف يأمر بطاعتهم ويرخص في منازعتهم إنما قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول … }] ، وغفلتهم تلك عن أولي الأمر الذين نصبهم الله سبحانه ليكونوا حفظة للقرآن في الأرض بعد أن نزله الطاهرين من السماء ، دفعتهم إلى منازعتهم في الأمر وغصبتهم ما جعله الله سبحانه لهم ، فلم يكتفوا بتلك الغفلة ، ولم يتوقفوا عند فعل الغصب القبيح ، بل زادوا الطين بلة عندما عدوا على كتاب الله سبحانه يقولونه بآرائهم وعقولهم الناقصة ، حتى صاروا هم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ، وهذا ما يعكسه غياب وعي البشرية عن حقيقة مسعاها في صحراء التيه المادي الذين لم تجن ولن تجني من ورائه سوى مزيداً من الظمأ كلما جدت في سيرها باتجاه ذلك السراب ، ومهما عملت من عمل فهو ليس سوى هباء منثوراً ، قال تعالى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً}(الفرقان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى