أخبار سياسية منوعةزاوية الأبحاثزاوية العقائد الدينية

هل دل القرآن على الشورى نظاماً للحكم/ج2

(2)
أبو محمد الأنصاري
3- قوله تعالى : {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }[ الشورى38].
جاءت هذه الآية الكريمة ضمن سياق عام يتحدث عن خصائص المجتمع الأمثل، قال تعالى : ( . . . وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون * والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ). فهي ناظرة إلى ظواهر يتميز بها المجتمع الإسلامي التي تمثل أهداف الإسلام وآدابه ، فمع ما يتحلون به من الإيمان ، وحسن التوكل على الله تعالى ، واجتناب الكبائر والفواحش ، والعفو والمسامحة ، والاستجابة لأمر ربهم ، وإحياء الصلاة ، ورد البغي والعدوان ، فهم أيضا شأنهم المشاورة بينهم. ففيه الإشارة إلى أنهم أهل الرشد وإصابة الواقع ، يمعنون في استخراج صواب الرأي بمراجعة العقول . فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى : ( يستمعون القول فيتبعون أحسنه ). وهذه نصوص تؤكد على أهمية التشاور والاسترشاد : وعلى هذا انطلق المفسرون في ظلال هذا النص يتحدثون عن استحباب مشاورة الناس لمن أهمه أمر ، والاسترشاد بعقول الآخرين وآرائهم الناضجة ، دائرين في دائرة ذلك البعد الاجتماعي الذي تقدم آنفا . . ما تشاور قوم قط إلا هدوا وأرشد أمرهم . استرشدوا العاقل ترشدوا ، ولا تعصوه فتندموا . من أراد أمرا فشاور فيه ، اهتدى لأرشد الأمور[الدر المنثور 7 : 357].
أخرج السيوطي ، منسوبا إلى الإمام علي عليه السلام قال : قلت : يا رسول الله ، الأمر ينزل بنا بعدك ، لم ينزل فيه قرآن ، ولم يسمع منك فيه شئ ؟ قال : اجمعوا له العابد من أمتي ، واجعلوه بينكم شورى ، ولا تقضوه برأي واحد[- الدر المنثور 7 : 357 ، وقال : أخرجه الخطيب في ( رواة مالك )].
والبحث فيه على فرض صحته ، علما أنه لم يرد في شيء من مصادر الحديث المعتمدة . . فهو حديث عن أمر لم ينزل فيه قرآن ، ولم يرد فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، مما قد يستجد بعده من أمور لم يكن لها موضوع ، أو ضرورة تدعوه لطرقها وتقديم الإرشاد فيها . . وهذا موضوع عام لسائر مستجدات الحياة المدنية والاجتماعية والتنظيمية . . ثم إن جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجه على ما يبدو إلى جهة تتولى مهام القيادة، وتقع عليها مسؤولية الحكم: (اجمعوا له العابد من أمتي) فهناك جهة مسؤولة هي التي تتولى مهمة جمع الصالحين من المؤمنين للمشاورة، أما إذا كان الأمر قد ورد فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقوله نافذ ، ولا محل للشورى والرأي فيه. والبحث في هذا الحديث إنما كان على فرض صحته ، والثابت أنه لم يصح وليس له أصل ، قال فيه ابن عبد البر : هذا حديث لا أصل له ! وقال الدارقطني : لا يصح ! وقال الخطيب : لا يثبت عن مالك[لسان الميزان 3 : 78 / 283 ترجمة سليمان بن بزيع].
ولنتابع الشورى في التاريخ والفقه السياسي، بعد أن ثبت في البحث المتقدم أن شيئا ما لم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يمكن أن يلتمس منه إيكال أمر اختيار خليفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشورى ، بل الأدلة الثابتة من الكتاب والسنة قائمة على عدم إيكاله إلى أحد من الأمة مطلقا . ومما يشهد بذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عرض الإسلام على القبائل اشترط عليه بعضهم أن يكون الأمر لهم من بعده ، فرفض في تلك الظروف الصعبة هذا الشرط قائلا : إن الأمر لله يضعه حيث يشاء[ذكره أصحاب السيرة ، انظر منها : إنسان العيون 2 : 154]. وعدم ورود شئ عن النبي (ص) في هذا الموضوع ، قضية مفروغ منها ، متفق عليها ، لا نزاع فيها.
فمتى ولد التفكير في إسناد هذا الأمر إلى الشورى؟
أول ظهور لمبدأ الشورى هذا أمر أثبته أصحاب التاريخ وأصحاب الحديث ، بلا نزاع فيه ولا خلاف . . اتفقوا على أن ذلك مبدأ سنه عمر بن الخطاب قبل وفاته ، وليس له قبل هذا التاريخ أثر . . قال القرطبي ، بعد كلام في استحباب الشورى : ( وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة – وهي أعظم النوازل – شورى )[ تفسير القرطبي : 161 – 162]. وقال ابن كثير : ( وأمرهم شورى بينهم ) أي لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه ، ليتساعدوا بآرائهم ، في مثل الحروب وما جرى مجراها ، كما قال تبارك وتعالى : ( وشاورهم في الأمر ) ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيب بذلك قلوبهم . وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب الوفاة حين طعن جعل الأمر بعده شورى[تفسير ابن كثير 4 : 119]. فانظر إلى هذا التحول الكبير في المدى الذي حدث قبل وفاة عمر، ولم يكن له قبلها أثر! أما كيف حدث هذا التحول الكبير ؟ وتحت أي دافع ؟ فهذا سؤال هام أجاب عنه عمر بن الخطاب بنفسه في ذات الوقت الذي جعل فيه الخلافة شورى ، ذلك في خطبته الشهيرة التي ذكر فيها السقيفة وأخبارها ، ثم قال : ( لا يغترن أمرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ، ألا إنها قد كانت كذلك ، ولكن وقى الله شرها ! فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه ، تغرة أن يقتلا )[ صحيح البخاري – كتاب الحدود – باب رجم الحبلى من الزنا / 6442 ، مسند أحمد 1 : 56 ، سيرة ابن هشام 4 : 308 ، تاريخ الطبري 3 : 200]. أما سبب هذه الخطبة التي أفرزت ( الشورى ) مبدءاً في اختيار الخليفة لأول مرة ، فيحدثنا عنه القسطلاني وهو يفك ألغازها . . فبعد أن يأتي بإسنادها الذي أورده البخاري عن ابن عباس ، وفيه أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى ابن عباس في موسم الحج وكان يتعلم عنده القرآن ، فقال له : لو سمعت ما قاله أمير المؤمنين – يعني عمر بن الخطاب – إذ بلغه أن ” فلانا ” قال : لو قد مات عمر لبايعت ” فلانا ” فما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة ، فهم عمر أن يخطب الناس ردا على هذا القول ، فنهيته لاجتماع الناس كلهم في الحج وقلت له إذا عدت المدينة فقل هناك ما تريد ، فإنه أبعد عن إثارة الشغب . . فلما رجعوا من الحج إلى المدينة قام عمر في خطبته المذكورة . . فمن هو ” فلان ” القائل ؟ ومن هو ” فلان ” الآخر ؟ حين تردد بعض الشارحين في الكشف عن هذين الاسمين ، استطاع ابن حجر العسقلاني أن يتوصل إلى ذلك بالإسناد الصحيح المعتمد عنده ، والذي ألغى به كل ما قيل من أقوال أثبت ضعفها ووهنها ، فقال : وجدته في الأنساب للبلاذري بإسناد قوي ، من رواية هشام بن يوسف ، عن معمر ، عن الزهري ، بالإسناد المذكور في الأصل ، ولفظه : ( قال عمر : بلغني أن الزبير قال : لو قد مات عمر لبايعنا عليا . . ) الحديث!![ مقدمة فتح الباري بشرح صحيح البخاري : 337 . وتبعه القسطلاني في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 10 : 19] فذلك إذن هو السر في ثورة عمر ! وذلك هو السر في ولادة مبدأ الشورى في الخلافة !
إن الأساس الذي قامت عليه نظرية الشورى هو أن أمر الخلافة متروك إلى الأمة .. ومن هنا ابتدأت الأسئلة تنهال على هذه النظرية، عند البحث عن الدليل الشرعي في تفويض هذا الأمر إلى الأمة . . وعند محاولة إثبات شرعية الأسلوب الذي سوف تسلكه الأمة في الاختيار . . لقد رأوا في قوله تعالى : ( وأمرهم شورى بينهم ) أفضل دليل شرعي يدعم هذه النظرية ، ومن هنا قالوا : إن أول وجوه انتخاب الخليفة هو الشورى . لكن ستأتي الصدمة لأول وهلة حين نرى أن مبدأ الشورى هذا لم يطرق أذهان الصحابة آنذاك . فانتخاب أول الخلفاء كان بمعزل عن هذا المبدأ تماما ، فإنما كان ” فلتة ” كما وصفه عمر ، وهو الذي ابتدأه وقاد الناس إليه ! ثم كان انتخاب ثاني الخلفاء بمعزل أيضا عن هذا المبدأ ! نعم ، ظهر هذا المبدأ لأول مرة على لسان عمر في خطبته الشهيرة التي ذكر فيها السقيفة وبيعة أبي بكر فحذر من العودة إلى مثلها ، فقال : ( فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه ، تغرة أن يقتلا)[ صحيح البخاري – كتاب المحاربين 6 / 6442 ، مسند أحمد 1 : 56 ، سيرة ابن هشام 4 : 308]. ذلك القول الذي عرفنا قبل قليل أنه ما قاله إلا ليقطع الطريق على الإمام علي عليه السلام ومن ينوي أن يبايع له ! لكنه حين أدركته الوفاة أصبح يبحث عن رجل يرتضيه فيعهد إليه بالخلافة بنص قاطع بعيدا عن الشورى ! فقال : لو كان أبو عبيدة حيا لوليته[الكامل في التاريخ 3 : 65 ، صفة الصفوة 1 : 367]. ثم قال : لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته[الكامل في التاريخ 3 : 65 ، صفة الصفوة 1 : 383 ، طبقات ابن سعد 3 : 343]. ثم قال : لو كان معاذ بن جبل حيا لوليته[صفة الصفوة 1 : 494]. إذن لم يكن عمر يرى أن الأصل في هذا الأمر هو الشورى ، وإن كان قد قال بالشورى في خطبته الأخيرة إلا أنه لم يعمل بها إلا اضطرارا حين لم يجد من يعهد إليه ! لقد أوضح عن عقيدته التامة في هذا الأمر حين قال قبيل نهاية المطاف : ( لو كان سالم حيا ما جعلتها شورى )!![ طبقات ابن سعد 3 : 248] ثم كانت الشورى . . وأي شورى ! ! إنها شورى محاطة بشرائط عجيبة لا مجال للمناقشة فيها ! وجملتها :
1 – إنها شورى بين ستة نفر ، وحسب ، يعينهم الخليفة وحده دون الأمة !
2 – أن يكون الخليفة المنتخب واحدا من هؤلاء الستة ، لا من غيرهم !
3 – إذا اتفق أكثر الستة على رجل وعارض الباقون ، ضربت أعناقهم !
4 – إذا اتفق اثنان على رجل ، واثنان على آخر ، رجحت الكفة التي فيها عبد الرحمن بن عوف – أحد الستة – وإن لم يسلم الباقون ضربت أعناقهم !
5 – ألا تزيد مدة التشاور على ثلاثة أيام ، وإلا ضربت أعناق الستة أهل الشورى بأجمعهم ! !
6 – يتولى صهيب الرومي مراقبة ذلك في خمسين رجلا من حملة السيوف ، على رأسهم أبو طلحة الأنصاري![ الكامل في التاريخ 3 : 66 – 67] فالحق أن هذا النظام لم يترك الأمر إلى الأمة لتنظر وتعمل بمبدأ الشورى ، بل هو نظام حدده الخليفة ، ومنحه سمة الأمر النافذ الذي لا محيد عنه ، ولا تغيير فيه ، ولا يمكن لصورة كهذه أن تسمى شورى بين المسلمين ، ولا بين أهل الحل والعقد . لقد كانت تلك الظروف إذن كفيلة بتعطيل أول شورى في تاريخ الإسلام عن محتواها ، فطعنت إذن في تلك القاعدة الأساسية المفترضة ( قاعدة الشورى ) .
والحق أن هذه القاعدة لم يكن لها عين ولا أثر من قبل . . فلم يكن أبو بكر مؤمنا بمبدأ الشورى قاعدة للنظام السياسي وأصلا في انتخاب الخليفة ، ولا مارس ذلك بنفسه ، بل غلق دونها الأبواب حين سلب الأمة حق الاختيار وممارسة الشورى إذ نص على عمر خليفة له ، ولم يصغ إلى ما سمعه من اعتراضات بعض كبار الصحابة على هذا الاختيار. علما أن اعتراض هؤلاء الصحابة المعترضين حينذاك لم يكن على طريقة اختيار الخليفة التي مارسها أبو بكر ، ولا قالوا : إن الأمر ينبغي أن يكون شورى بين الأمة ، ولا احتج أحدهم بقوله تعالى : ( وأمرهم شورى بينهم ) ، وإنما كان اعتراضهم على اختياره عمر بالذات ، فقالوا له : استخلفت على الناس عمر ، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه ، فكيف به إذا خلا بهم ؟ ! وأنت لاق ربك فسائلك عن رعيتك![ الكامل في التاريخ 2 : 425] بل كان عمر صريحا كل الصراحة في تقديم النص على الشورى ، ذلك حين قال : ( لو كان سالم حيا لما جعلتها شورى )!![ طبقات ابن سعد 3 : 248] إن عهدا كهذا ليلغي رأي الأمة بالكامل ، وحتى الجماعة التي يطلق عليها ( أهل الحل والعقد ) ! قالوا : إذا عهد الخليفة إلى آخر بالخلافة بعده ، فهل يشترط في ذلك رضى الأمة ؟ فأجابوا : إن بيعته منعقدة ، وإن رضا الأمة بها غير معتبر ، ودليل ذلك : أن بيعة الصديق لعمر لم تتوقف على رضا بقية الصحابة![ مآثر الإنافة 1 : 52 ، الأحكام السلطانية – للماوردي – : 10 ، الأحكام السلطانية – للفراء – : 25 – 26 ] لم يكن إذن لقاعدة الشورى أثر في تعيين الخليفة ! ! لعل هذه الملاحظات هي التي دفعت ابن حزم إلى تأخير مبدأ الشورى وتقديم النص والتعيين الصريح من قبل الخليفة السابق ، فقال : ( وجدنا عقد الإمامة يصح بوجوه ، أولها وأصحها وأفضلها : أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره إماما بعد موته )! [الفصل 4 : 169].

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى