زاوية العقائد الدينية

إبليس والبشر

القرأن الكريم كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يزور الشك لحظة اي انسان مسلم موحد ان الله سبحانه قد خلق البشر وهذا الكون الواسع والسماوات وانزل الكتاب بالحق على نبيه المصطفى محمد (صلى الله عليه واله)، يدعونا فيه للتدبر والتفكر. امراً فكرت فيه طويلا، بحثت عمن يشاركني فيه طلباً للحق، اسأل نفسي مرة واحاور من حولي من المسلمين اخرى لحقيقة ماثلة واضحة بكتاب الله، محاولا ما مكنني به ربي تسليط الضوء على أهم ما خلق من اجله بنو أدم. لكن الناس ويالها من حسرة، لا تقبل احيانا الا ما يملى عليهم ولو كان باطلا واضحا واحيانا اخرى تخاف من الخوض في مواضيع نتائجه ان يواجه المرء ما شاع بين الناس.

لم ينتابني شعور كهذا، امة تنقسم الى اجزاء متراميه كلها باطلة وفرقة منها ناجية، هذا ما بينه لنا رسولنا الكريم، شعور يدفعني نحو التدبر أكثر لما شعرت بالصدمة من رد فعل الناس. هذه الحقيقة التي بينها لنا القرأن الكريم و السنة النبويه الشريفه، لكن سنبدا من حيث بدأ كتاب الله وضرب لنا مثلا لا ينكره حتى من لم يقرأ من الكتاب الا اية وهو خروج ابليس من عبودية الله.

ابليس هذا المخلوق من الجن الذي ارتقى وصار بمصاف الملائكة من كثرة عبادته وسجوده لله سبحانه، بل صار يسمى طاووس الملائكة كما بينت لنا الاحاديث الشريفه. ولنلق نظرة بسيطة على حال هذا المخلوق، قال تعالى (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) فهو مخلوق من الجن كما توضح هذه الاية الكريمه.

وتارة يكون مخاطبا كملاك من الملائكة، قال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) فهذا المخلوق قد ارتقى الى مصاف الملائكة، ثم مالبث ان خر الى اردأ ما يمكن لمخلوق: هاوية سحيقة لا تدركها العقول ولا تعرف مدى قعرها الأذهان.

هنا ندعو كل انسان مسلم ان يتدبر، لماذا ياترى ؟ وهل القبح الذي اخرج ابليس من الجنة الى قعر جهنم هو نفسه قادر بان يردي بني آدم الى نفس الهاوية، أليس الله سبحانه حكمه واحد لا يتبدل، ثم ماالحكمة في ان يبدأ الله الخلق بهذا الامر ويذكره للناس ويحذرهم من هذا المنزلق الخطير؟! طالما كرر سبحانه تحذيره للبشر ان لا يقعوا بنفس الهاوية ويضلهم ابليس ويجرهم لنفس الطريق المظلم (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً).

فالذي أخرج ابليس هو عدم قبوله بالخليفة المنصب من الله، وقاده استكباره وغروره الى عدم الاقرار بمن نصبه الله سبحانه (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) هكذا بدأ القصة، نصّب الله خليفة له في ارضه وأمر كل المخلوقات بالرجوع اليه والاقرار له وهذا ما ذهب الى تفسيره جمع من العلماء ولنأخذ تفسير القرطبي على سبيل المثال فقد قال في هذه الاية (آدم عليه السلام، وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره، لأنه أول رسول إلى الأرض، كما في حديث أبي ذر، قال قلت: يا رسول الله أنبيا كان مرسلا؟ قال: (نعم) الحديث هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة. وأقاموا الحدود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولى ذلك. ودليلنا قول الله تعالى: “إني جاعل في الأرض خليفة” [البقرة: 30]، وقوله تعالى: “يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض” [ص: 26]، وقال: “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض” [النور: 55] أي يجعل منهم خلفاء، إلى غير ذلك من الآيات).

وذهب اكثر العلماء هذا المذهب في تفسير الاية الكريمة، وعلى هذا الاساس الذي اخرج ابليس عن عبودية الله هو كفيل بأخراج اي احد من بني ادم من عبودية الله لو كرر هذا الفعل الشنيع، فلا يحكم العادل بحكمين في قضية واحدة!.

وهذا يقودنا الى امر مهم جدا، هو ان الله سبحانه هو من ينصب الخلفاء وليس الناس، بل ماعلى الناس الا الاقرار والتسليم بمن نصبهم الله، والا انهم قد اخذوا طريق ابليس وسلكوا مسلكه بل لعلهم يحسبون انفسهم يحسنون صنعا وما يشعرون.

حاكمية الله في الارض هي اساس الاختبار والامتحان، ولو تدبرنا القران الكريم لوجدناه يتحدث عن الخليفة المنصب من الله أكثر من اي شئ آخر. قال تعالى( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) فلم يكن الملك والتنصيب بيد الناس ابدا في يوم من الايام، ولم تكن مساحة للناس في اختيار الخليفة في اي دهر من الدهور

قال تعالى (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (كيف يمكن ان يتصور عاقل بعد كلام الله الواضح انه لاوجود لخلفاء ينصبهم الله سبحانه، او انه قد توقف عند حد معين !

قال تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) اليس هؤلاء خلفاء قد نصبهم الله سبحانه على الناس وجعلهم ائمة، ام ياترى كان للناس دورا في تنصيبهم ؟

قال سبحانه (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً) وكل الايات تشير الى معنى واحد ثابت ان الملك والتنصيب بيد الله لا بيد الناس، والذي أخرج ابليس من عبودية الله هو نفسه من يخرج بني أدم لو رفضوا التنصيب الالهي، فيكون حالهم حال من تفرق وابتعد عن الحق ممن سبقهم من الامم الذين رفضوا التنصيب الالهي وسلكوا سلوك ابليس ـ هذا المغرور الجاهل ـ الذي أعلن عن أول حالة رفض للخليفة المنصب من الله، وصار شغله الشاغل ايقاع بني آدم بنفس الخطيئة. ومن الامم الذين رفضوا خلفاء نصبهم الله واتبعوا الاهواء والطواغيت الاقوام الذين ارسل اليهم عيسى ويحيى ولوط وهود (عليهم السلام) وغيرهم كثير.

قال تعالى (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً)، وقوله سبحانه (آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ)، يتضح ان اتيان الحكم والتنصيب من الله سبحانه، فمن قبل بما أنزل الله كان من الناجين، ومن أبى وتكبر فقد اتخذ نفس طريق ابليس وان ادعى انه من اهل الدين.

وهذا المعنى اشار الله اليه بوضوح تام لاينكره الا من اتخذ الهه هواه، وهو وجود خلفاء ينصبهم الله سبحانه في امتنا من بعد النبي محمدا (صلى الله عليه وعلى اله وسلم) وأوجب طاعته بل وجعل طاعته مقرونة بطاعة الله , فذاك هو التنصيب الالهي وذاك هو الامتحان والاختبار قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)

فمن ينصب اولي الامر يا ترى أ الله ام الناس ؟؟ ولماذا فرضت طاعتهم بشكل مباشر مع طاعة الله سبحانه إن لم يكونوا قد نصبهم الله !!.

وبتدبر السنة النبويه يتبين ان الاختبار هو بخليفة الله في الارض في كل زمان. وهذه بعض الاحاديث التي لايلتبس معناها بعد هذا البيان، فقد اخرج البخاري في صحيحه وابن تيميه في مجموع الفتاوى وأخرجه الالباني في الصحيح الجامع هذا الحديث عن النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) قال فيه (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء، فيكثرون قالوا: فما تأمرنا، قال: فوا بيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم الذي جعله الله لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم) فقوله اعطوهم حقهم الذي جعله الله لهم اي بيعتهم التي اوجبها الله لهم وان الله قد حملهم تلك الامانة وهي خلافة الله في الارض، فليس للناس دور بتنصيبهم بل هو بيد الله. وهذا الحديث الذي ينقله الهيثمي في مجمع الزوائد ووثق رجاله يشير الى ان الخلافة تنصيب من الله، وليس على الامة الا التسليم بل يبين اكثر من ذلك وهو ان الخلفاء الذين نصبهم الله سبحانه وتعالى لا يعترض عليهم بأي شكل من الاشكال، حتى وإن خال عقل المرء انهم يقضون او يحكمون بامر لم يات به رسول الله واليكم الحديث: (أطيعوا أمراءكم مهما كان فإن أمروكم بشيء مما جئتكم به فإنهم يؤجرون عليه وتؤجرون بطاعتهم وإن أمروكم بشيء مما لم آتكم به فإنه عليهم وأنتم منه برآء ذلكم بأنكم إذا لقيتم الله قلتم ربنا لا ظلم فيقول لا ظلم فتقولون ربنا أرسلت إلينا رسلا فأطعناهم بإذنك واستخلفت علينا خلفاء فأطعناهم بإذنك وأمرت علينا أمراء فأطعناهم بإذنك فيقول صدقتم هو عليهم وأنتم منه برآء) بل وان طاعتهم بامر من الله وان الله هو من نصبهم بدلالة قوله استخلفت علينا خلفاء، وأمرت، وأرسلت.

كل هذا يوضح بما لا يقبل اللبس خلافة الله في الارض وان طريقها هو التنصيب الالهي لا اختيار الناس فحري بنا الان ان نتسائل، من هم، كيف نعرفهم، هل يعقل ان ناتي الى هذا العالم ونمضي وما نعرف الحق الذي أوجبه الله علينا واساس اختبارنا ؟ دعوة للتأمل والتدبر فالامر عظيم وعليه مصير بني آدم اما مع الله او طريق ابليس.

 …………………………………………………………………………………………………………………………ز

( صحيفة الصراط المستقيم – العدد 16- السنة الثانية – بتاريخ 9-11-2010 م – 3 ذو الحجة 1431 هـ.ق)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى