زاوية العقائد الدينيةعقائد الشيعة

قراءة في آية إكمال الدين – الجزء الثاني

ما المراد من إكمال الدين:

ذكر المفسّرون في تفسير هذا المقطع من الآية الشريفة(اَلْيَوْمَ اَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ...﴾ ثلاث نظريات :

 1 ـ إن المراد من الدين؛هو القوانين، أي أن ذلك اليوم كملت فيه قوانين الإسلام فلا يوجد في الإسلام خلأ قانوني وفراغ تشريعي بعد الآن.

 ولكنّ الجواب على هذه النظرية يمكن أن يثير سؤال وهو :

 ما هذا القانون المهم أو الحادثة المهمة التي وقعت في ذلك اليوم وأدّت إلى تكميل القوانين الإلهية والتشريعات السماوية ؟

 و الجواب على هذا السؤال يكمن مضمون الآية الشريفة ومدلولها.

 2 ـ ذهب البعض إلى أن المقصود من كلمة الدين هو الحجّ؛أي أنّ الله تعالى قد أكمل حجّ المسلمين في ذلك اليوم العظيم.

 ولكن هل أنّ الدين يستعمل بمعنى الحجّ واقعاً، أو أنّ الدين هو مجموعة العقائد والأعمال والعبادات التي يشكل الحجّ أحدها ؟

 من الواضح أن احتمال الثاني هو الصحيح، وعليه فإن تفسير الدين بمعنى الحجّ هو تفسير غير مقبول ولا يقوم على دليل متين.

 3 ـ إنّ تحقق مضمون الآية الشريفة في إكمال الدين وإتمام النعمة في هذا اليوم بأنّ الله تعالى نصر فيه المسلمين على أعدائهم وخلّصهم من شرّ هؤلاء الأعداء.

 ولكن هل يصحّ هذا الكلام ؟ فمن هم الأعداء الذين غلبوا وشعروا باليأس ؟ فبالنسبة إلى المشركين فقد استسلموا ودخلوا في الإسلام في السنة الثامنة للهجرة عند فتح مكة، وبالنسبة إلى يهود المدينة وخيبر وقبائل بني النظير وبني قينقاع وبني قريظة فإنّهم قد هزموا في سنوات سابقة في معركة خيبر والأحزاب فتركوا الجزيرة العربية وخرجوا إلى خارج الحكومة الإسلامية، وأمّا بالنسبة إلى النصارى فقد أمضوا معاهدة الصلح مع المسلمين، وعليه فإن جميع أعداء الإسلام قد استسلموا قبل السنة العاشرة للهجرة.

 نعم، بقي خطر المنافقين الذين يمثّلون أخطر أعداء الإسلام حيث لا زال خطرهم ماثلاً أمام المسلمين، ولكن كيف يمكن القول بأنهم قد انهزموا وأصابهم اليأس ؟

 هنا نجد أن هذا السؤال بقي بلا جواب مقنع كما هو حال السؤال المطروح في النظرية الأولى والذي لم يتقدم أصحاب هذه النظرية بالجواب على هذا السؤال.

 أما تفسير علماء الشيعة فكما تقدّم آنفاً فإنّه يجيب على جميع الأسئلة ويلقي ضوءاً خاصّاً على مفهوم الآية وأجواءها.

 أجل ! فإنّ واقعة غدير خم ومسألة الولاية وخلافة أميرالمؤمنين تعتبر أفضل تفسير بل هي التفسير الصحيح لهذه الآية الشريفة، لأنّ مع وقوع هذه الحادثة المهمة فإنّ آمال المنافقين وأعداء الإسلام قد تبددت وتبدلت إلى يأس.

  يقول الفخر الرازي المفسّر السنّي المعروف :

 قال أصحاب الآثار انّه لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ لم يعمر بعد نزولها إلاّ أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخولا تبديل البتّة.

 وعلى وفق مقولة الفخر الرازي هذه فإنّ الآية الشريفة قد نزلت قبل رحلة النبي (صلى الله عليه وآله)بواحد وثمانين يوماً أو أثنين وثمانين يوماً، وعلى هذا الأساس فيمكن حدس وقت نزول الآية الشريفة، ولإيضاح هذا المطلب يلزمنا التعرف على زمن رحلة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فإنّ أهل السنّة يرون أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد ولد في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل واتفق أنّ وفاته كان في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل أيضاً.

وبعض الشيعة أيّد هذا الرأي ومنهم الكليني الذي يرى أن تاريخ وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)كان في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل بالرغم من أنّه يرى أن ولادة رسول الله (صلى الله عليه وآله)كانت في اليوم السابع عشر من ربيع الأوّل طبقاً لما هو المشهور من علماء الشيعة، وعلى هذا الأساس لابدّ من الرجوع واحداً وثمانين يوماً أو أثنين وثمانين يوماً من الثاني عشر من ربيع الأوّل، ومع الإلتفات إلى أن الأشهر القمرية لا تكون ثلاثين يوماً على التوالي في ثلاثة أشهر وكذلك لا تكون تسعة وعشرين يوماً على ثلاثة أشهر متوالية ينبغي أن يكون هناك شهران كاملان وبينهما شهر واحد منه تسعة وعشرين يوماً، أو بالعكس بأن يكون هناك شهران لتسعة وعشرين يوماً وشهر واحد لثلاثين يوماً.

 فلو أخذنا بنظر الإعتبار شهر محرم وصفر وفرضنا أنّ كلّ واحد منهما تسعة وعشرين يوماً، فالمجموع يكون ثمانية وخمسين يوماً، ومع إضافة أثنى عشر يوماً من شهر ربيع الأوّل يكون المجموع سبعين يوماً، وبالالتفات إلى أن شهر ذي الحجّة لابدّ وأن يكون ثلاثين يوماً فلو توغلنا فيه اثنى عشر يوماً ليكون المجموع اثنين وثمانين يوماً يصادف هذا اليوم هو يوم عيد الغدير الثامن عشر من ذي الحجّة، وعلى هذا الأساس وطبقاً لنظرية علماء السنّة فإنّ الآية الشريفة أعلاه تتعلّق بيوم الغدير لا بيوم عرفة.

 وإذا كان المعيار هو واحداً وثمانين يوماً فإنّه يتفق مع اليوم الذي يتلو يوم الغدير لا يوم عرفة حيث تفصله مع يوم عرفة فاصلة كبيرة.

 وإذا أخذنا شهر محرم وصفر لكلّ واحد منهما ثلاثون يوماً وشهر ذي الحجّة تسعة وعشرين يوماً فطبقاً لعدد اثنين وثمانين يوماً يكون اليوم التاسع عشر من ذي الحجّة هو المراد وطبقاً لواحد وثمانين يوماً فإنّ يوم عشرين ذي الحجّة يكون هو زمان الآية الشريفة، أي أن الآية الشريفة نزلت بعد يوم واحد أو يومين بعد واقعة الغدير ونصب الإمام علي (عليه السلام)خليفة على المسلمين وناظرة إلى هذه الحادثة التاريخية المهمة ولا ترتبط إطلاقاً بيوم عرفة.

 والنتيجة هي أنّ القرائن المختلفة التي تحف بهذه الآية الشريفة تشير إلى أن هذه الآية تتعلّق بواقعة الغدير وأنها نزلت في شأن خلافة أميرالمؤمنين الإمام عليّ (ع).

 سؤال : إنّ بداية الآية الثالثة من سورة المائدة تتحدّث عن اللحوم المحرمة ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، وفي آخرها تتحدّث عن الاضطرار والضرورة وأحكامه(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، وفيما بينهما تتحدّث الآية عن ولاية وإمامة أميرالمؤمنين، فأيّ تناسب وانسجام بين مسألة الولاية والإمامة وخلافة النبي (ص) مع مسألة اللحوم المحرمة وحكم الاضطرار والضرورة ؟ ألا يكون هذا شاهداً على أن العبارة مورد البحث في هذه الآية لا يرتبط بمسألة الولاية بل يشير إلى مطلب آخر ؟

 الجواب : إنّ آيات القرآن الكريم لم ترد بصورة كتاب منظم كما هو الحال في الكتب المتعارفة الكلاسيكية بل نزلت متفرقة وعلى فترات مختلفة وقد تكون آيات سورة واحدة قد نزلت في أوقات متباينة وكان النبي الأكرم (ص) يوصي بكتابة كلّ آية في سورة معيّنة، وعلى هذا الأساس فيمكن أن يكون صدر الآية مورد البحث الذي يتحدّث عن الأسئلة التي كان المسلمون يسألون النبي الأكرم (ص) عنها وعن اللحوم المحرمة قد نزل قبل واقعة الغدير، وبعد مدّة حدثت واقعة الغدير ونزلت الآية محل البحث وذكرها كتّاب الوحي بعد آية تحريم اللحوم، ثمّ حدثت مسألة الاضطرار أو حدث مصداق من مصاديقها وحكم هذا الاضطرار، لذلك نجد أن ذيل الآية الشريفة يتضمن هذا الحكم الشرعي وقد كتبه كتّاب الوحي بعد الحديث عن واقعة الغدير المذكور في وسط الآية، وبملاحظة النكتة أعلاه فليس بالضرورة أن يكون هناك إنسجاماً معيناً في سياق الآية الشريفة.

 ومع الإلتفات إلى هذه الملاحظة سوف تنحل كثير من الشبهات والإشكالات المتعلّقة بآيات القرآن الكريم.

 سؤال آخر:رأينا فيما سبق أن الآية الثالثة من سورة المائدةهي آخر الآيات التي نزلت على النبي الأكرم (ص)، ومع نزول هذه الآية يكون الدين قد كمل وتكون الشريعة الإسلامية بمجموع مقرراتها وقوانيها قد نزلت بصورة كاملة على النبي الأكرم (ص)، فإذا كان كذلك إذن فلماذا ورد بعد هذه الآية مورد البحث وفي ذيلها حكم الاضطرار والضرورة ؟ أي إذا كانت آية إكمال الدين هي آخر آية وتخبرنا عن إكمال الدين والشريعة، إذن فماذا يعني هذا القانون الجديد الذي نزل بعدها ؟

 الجواب:يمكن الإجابة عن هذا الإشكال بصورتين:

 الجواب الأوّل:إنّ مسألة الاضطرار في زمان القحط والذي ورد في هذه الآية الشريفة لا يورد حكماً جديداً بل هو حكم تأكيدي لما سبق من الأحكام الشرعية، لأنّ هذا الحكم قد ورد قبل ذلك في ثلاث آيات من القرآن الكريم :

 1– نقرأ في آية 145 من سورة الأنعام وهي سورة مكية قوله تعالى :(قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا اُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِم يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزير فَاِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً اُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَاِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

 فكما تلاحظون أنّ هذه الآية الشريفة قد نزلت في مكّة قبل هجرة النبي (ص) إلى المدينة وتبين حكم الاضطرار أيضاً.

2– نقرأ في الآية 115 من سورة النحل التي نزل قسم منها في مكّة المكرّمة وقسم منها في المدينة قوله تعالى :(اِنَّما حَرِّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزيرِ وَمَا اُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَاِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

 ففي هذه الآية الشريفة التي نزلت قبل الآية مورد البحث قد ذكر فيها حكم الاضطرار.

 3– ونقرأ في الآية 173 من سورة البقرة والتي نزلت في أوائل هجرة النبي (ص) إلى المدينة الحكم الشرعي للاضطرار أيضاً وهي تشبه إلى حدّ كبير الآية التي ذكرناها آنفاً مع تفاوت يسير(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

 النتيجة : هي أن الحكم الشرعي للاضطرار قد ورد في القرآن الكريم قبل هذه الآية

مورد البحث في ثلاث موارد أُخرى، وعليه فإنّ الحكم الشرعي في الآية المذكورة لا يعدّ حكماً جديداً ولا يتنافى مع آية إكمال الدين حيث لم ينزل أيّ قانون جديد بعد هذه الآية على النبي الأكرم (ص).

 الجواب الثاني : إن آيات القرآن الكريم لم تجمع على حسب ترتيب نزولها، وعلى سبيل المثال فالآية 67 من سورة المائدة تقول:(يا اَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا اُنْزِلَ اِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ…)، ومن المعلوم أن هذه الآية نزلت قبل الآية مورد البحث.

 ولكنّها عند تدوينها قد كتبت بعد تلك الآية، وعليه فلا مانع أن يكون حكم الاضطرار قد نزل قبل آية إكمال الدين ولكن في حال تدوينها قد كتبت بعد الآية الشريفة.  وللبحث بقية ستأتي إن شاء الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى