زاوية العقائد الدينية

القرآن منهج لتطهير النفوس…قراءة في المصطلح

 

يعد مصطلح (القرآن) مصطلحا إسلامياً بامتياز حيث ليس في لسان العربية قديمها وقريبها من الإسلام اصطلاح على هذه الصورة وعلى هذه الهيأة ، وما زال إلى يومنا هذا يشكل لدارسي العربية مشكلاً أو شبهة يتخلصون من إحراج السؤال عنها بالجواب بـ(الذي بين الدفتين!!!)

وهذا الجواب على الرغم من واقعيته لأنه أشار إلى صورة القرآن غير أنّ فيه تعمية كبيرة بل تكاد تكون تامة ، وذلك بسبب كون الفكر الإنساني بناؤه محكوم بين قوسي المفهوم والمصداق ، ولذلك تراه يشعر بالتيه إذا خرج من هذين الحدين ، وهذا التيه لاشك في أنه يولد مرارة يشعرها الإنسان تماما وهي مرارة الجهل ، فماذا يعني هذا الذي بين الدفتين؟! فهذا الذي بين الدفتين من دون ناطق به يصبح مدعاة للاختلاف كما هو اليوم ، لأن ستنطقه بما ترى وترغب ويعم الاختلاف وتعم الفوضى ، ولا يمكن أن تكون الفوضى خلاقة إلا لما هو مدمر ، مثلما خلقت فوضى الإنسانية وحشا مدمرا اسمه (أمريكا) .
ولو شئنا أن نكون أكثر وضوحا في بيان وصف حدّي الفكر البشري فهما ؛ الشريعة ـ أو ما يصطلحون عليه اليوم الدستور ـ ومعلم الشريعة ـ أو ما يصطلح عليه بالحاكم ـ وهذا الفهم يكشف لنا بصورة لا تقبل اللبس أو الشك مدى خسارة البشرية وهي تترك شريعة الخالق المدبر المهيمن ، وتجترح سبيل اتباع شريعة المخلوق المدبَّر العاجز ، حيث أن الناس اليوم تشكل لديها فهم غريب زرعته طاغوتية البشر وتعديهم على مقام الخالق ، حيث يفهم الناس اليوم من الحاكم ؛ إنه ذلك المسمى الذي بيده يسوسهم ويقودهم ويتصرف بهم وبشؤونهم (وهو لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون) من دون أن يمارس محور الحاكمية الحقيقي وهو التعليم الذي بدونه لا قيمة لكل أغصان شجر الحاكمية التي يهيمن عليها الحاكم ، ذلك لأن الأغصان تأخذ هويتها من تعلقها بالساق ، والساق يستمد حياته من الجذر ، والجذر يستمد وجوده من الغيب ، ولذلك فالأغصان من دون ساق هي حطب ولا يقال عنها أغصان ، والساق إذا لم يرتبط بالجذر هو خشب حسب ، ولابد من أن يكون الجذر مرتبط بالغيب الذي هو مصدر وجوده ، ذاك أن البشرية كلها على اختلاف مذاهبها ومشاربها متفقة على أن واهب الوجود هو (واحد أحد) ولا يشذ عن ذلك إلا المسوخ الفكرية .
إذن الحاكم لابد أن يكون معلماً قبل أن يكون حاكماً ، ولذلك نرى رسول الله(ص) عندما بعث للناس قال لهم ما معناه (إنما بعثت معلماً) ولم يقل ؛ إنما بعثت سيداً أو ملكاً أو … أو … من دعوات الطواغيت ، ولذلك هناك ملحظ غاية في الأهمية وهو ؛ إن المعلم يواجه جهل الناس بالرحمة والمغفرة ، والطاغوت يواجه جهل الناس بالغلظة والجبروت!!! فليس هناك من (طاغوت) واجه تمرد الناس عليه بالرحمة والدعوة بالحسنى والمجادلة بالتي هي أحسن ، بل مباشرة يجعل السيف حاكماً بينه وبينهم حتى لو كانوا أقرب الناس نسباً إليه ، أما المعلم(الحاكم) فمصداقه الحق ؛ رسل الله وأنبياؤه وأوصياؤه(ص) حيث يقابلون الناس بالكلمة الطيبة عندما يشتمون ، ويقابلونهم بالإحسان عندما يسيئون ، وخاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد(ص) خير مثال على ذلك ؛ فهو عندما كان قومه يواجهوه بالإساءة يرفع يديه بالدعاء قائلا : اللهم اهدِ قومي إنهم لا يعلمون!!! فهو رحمة الله سبحانه تسعى على قدمين شريفتين مباركتين حيث قال الحق سبحانه يصف حال الرسول(ص) {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(آل عمران/159) ، وجعل منهج عمله معهم قائم على العفو لأنهم يجهلون (ومن يرحم جهلهم غير العالم به) ، وعلى المغفرة ذلك لأن جهلهم لابد مثمر عما لا يُرضي من القول والعمل ، ولو يؤاخذهم بكل ما يقدمون لكان الحال كما وصف سبحانه{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}(النحل/61) ، وقال تعالى{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً}(فاطر/45) ، وعلى مشاورتهم في الأمر ، وهذه المشاورة تحقق ما يأتي على سبيل المثال وليس الحصر :
1- أن يجتهد العباد في التفكر والتدبر ، ولا يكون جهلهم باعثاً على الكسل واليأس لأن في العمل النجاة .
2- هذا الاجتهاد يشجعهم على تمثل خطوات المعلم في العمل ، ولهذا الحال مردودان إيجابيان وهما ؛ الأول ؛ يثبت في نفوسهم كون المعلم أسوة حسنة يقودهم إلى كل خير ، فيكون ذلك عقيدة راسخة لا تبديل لها ، والثاني ؛ يكشف لهم عما جعل فيهم من إمكانات الوصول إلى الغاية العظمى وأن ذلك واقع في دائرة الإمكان وليس مستحيلاً ، مما يدفعهم باتجاه العمل دفعة قوية يستشعرون معها حلاوة السبيل ومرارة الكسل والركون إلى الراحة .
3- يعرفهم هذا الأمر أن ربهم جعل لهم هامشاً من المشاركة التي يشعرون معها أن الرسول(ص) المعلم منهم وليس خلقاً مختلفا عنهم ، مما يشعرهم بعظمة الطاعة مع ضعف التسلطية .
4- تخلق هذه المشاورة شعوراً لدى الناس أن علاقتهم الحقيقية هي مع الغيب على الرغم من توفر الواسطة ، وإنما كانت الواسطة ليكون هذا الذي هم فيه من الارتباط مع الغيب ، ولولا تلك الواسطة لاحتوشتهم الظلمة وعادوا أعداما كما كانوا ، فكان حضور الرسول المعلم بين ظهرانيهم هو حضور النور الذي به تتبدد ظلمة الجهل .
فضلا على أن هناك ما لا يعد ولا يحصى من الفوائد المترتبة على هذه المشاورة وهذا النهج الذي ـ للأسف الشديد ـ اتخذه علماء آخر الزمان خنجراً يحاولون به اغتيال حاكمية الله سبحانه!!! ذاك أنهم كلما عقدوا سقيفة انحراف رفعوا شعار (الشورى) وراحوا يستجهلون الناس أنها من الشريعة!!! وهم يعلمون أن شوراهم تلك ليست من الشريعة ولا حظ لها سوى المخادعة التي استغلوا فيها المصطلح وأخرجوه من ساحة الله سبحانه ، ليعملوا به في ساحة الشيطان(لع) .
وبالعود إلى مصطلح (القرآن) نلحظ أن دارسي العربية اتفقوا على أن هذا الاسم مما لا جمع له من لفظه ، وهذا صحيح ، ولكنهم يعللون ذلك تعليلات بعيدة عن واقع حال القرآن ، بينما تعليله يمكن تحصيله من قول الإمام الصادق(ص) ما معناه (إن القرآن واحد نزل من عند الواحد) ، فالقرآن لا جمع له من لفظه لأنه واحد وليس متعدد ، إلا أن هذا الاختلاف في التوجيه مرده إلى أن الدارسين عموماً يطوون كشحاً عن علماء القرآن وأعني بهم آل محمد(ص) ويأنفون أن يأخذوا منهم ، ذلك لأن الأخذ منهم يتطلب الاعتراف بحقهم ، وبمظلوميتهم ، والناس لا تريد أن تدين أنفسها بإعراضها عن بيت الله سبحانه ؛ بيت آل محمد(ص) ، فيلجؤون إلى من هم ليسوا من أهل القرآن ليسألوهم عن القرآن ، والمصيبة أن أولئك المسؤولين لا يتورعون عن الخوض فيما لا طاقة لهم به بل يلجون تلك المواطن وولوجهم لها من دون إذن أهلها يعد مثلبة خلقية عظيمة ، فالداخل إلى مكان من دون أن يستأذن أهله ، ويعمد إلى أخذ شيء منه من دون استئذان أيضا يكون سارقاً ، ولا أظن أحداً يعد السرقة فضيلة!!!
وعلى هذا الأمر أمثلة أكثر من أن تذكر فرؤساء المذاهب الإسلامية كلهم من هذه العينة ، ذلك لأنهم باسم الإسلام شقوا لهم سبلا غير سبيله سبحانه الذي جعل عليه أدلاءه هم من أنزل بهم وصيته إلى رسول الله(ص) مختومة من السماء ليلة وفاته وقام رسول الله(ص) بإملائها على أمير المؤمنين(ص) ، وفيها يسمي الرسول(ص) لأمته كي لا تضل بعده أبداً ؛ إثني عشر إماماً ، ومن بعدهم إثني عشر مهدياً قادة ومعلمين للأمة معصومين ، وقرآنا ناطقاً واحداً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
فما عدا مما بدا حتى تتمرد الأمة على دين الله باسم دين الله سبحانه ، وسأكتفي بنقل مثالين على الأئمة الذين نصبهم الناس ولم ينصبهم الله سبحانه ، وما أخذوا من بيت الله سبحانه من دون استئذان ، وكيف أساؤوا ؛ فهذا الشافعي يقول عن القرآن ما نصه (أن القرآن ليس مشتقا من أي فعل ، وإنما هو أسم علم لا يعلل ، شأنه شأن سائر الأعلام ، ومثله التوراة والإنجيل والزبور ، لا يبحث عن أصولها .) ، وليس هناك من شك في أن القرآن علم ، أما كونه غير مشتق فغير صحيح ، ليس هناك من علم لا اشتقاق له بل لابد لكل علم من فعل يشتق منه ، والجهل بالاشتقاق لا يعني عدم وجوده ، فالله سبحانه أرشدنا إلى سؤال من يستحق السؤال فقال جل وعلا {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(النحل/43) ، وأهل الذكر هم آل محمد(ص) حصراً ولا تخرج لغيرهم فيُسأل إلا بإذنهم (صلوات الله عليهم) ، وعلى ذلك دل المنقول المتواتر عنهم(ص) ، أما إشارة الشافعي إلى أن القرآن علم لا يعلل فهذه مصادرة من دون دليل ، بل ربما الدليل قائم على ما ينقضها ، وهو أن القرآن معلل بالقراءة بدليل أن أول ما نزل على رسول الله(ص) (اقرأ باسم ربك الذي خلق) ، وهو مشتق منها لأنّ القراءة والقرء كلها من (قرأ) ، ليس بمعنى ؛ تلا ، وإنما بمعنى طهر ، لأنّ القراءة تطهير من الجهل واستنبات للمعرفة ، والعلة التي نزل من أجلها القرآن إلى هذا العالم هي تلك أن يعرف الناس ربهم بـ(القرآن والعترة) ولا سبيل إلى معرفته غيرهما بوصفهما حدّي سبيل الله سبحانه ، ويطهروا أنفسهم من جهلها بالتمسك بهما والاعتصام بهما ، ويكون على ذلك القرآن منهج الحق سبحانه في تزكية النفس من الجهل ، وإنارتها بالعلم والمعرفة ، وجعل لهذا المنهج مصداقاً عاملاً مخلصاً ، وهو معلم المنهج ، وهم محمد وآل محمد(ص) ، واستنادا إلى ذلك فالقرآن من مختصات الإسلام حصراً وهو منهج الله مشتق وليس جامد وله علة وعلته أنه نازل لتزكية النفس من الجهل ، وأصله من الفعل (إقرأ) .
وهذا أبو حنيفة وموقفه مع الإمام الصادق(ص) (مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُثْمَانَ الْكَرَاجُكِيُّ فِي كَنْزِ الْفَوَائِدِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ(ع) أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَكَلَ مَعَهُ فَلَمَّا رَفَعَ الصَّادِقُ(ع) يَدَهُ مِنْ أَكْلِهِ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَمِنْ رَسُولِكَ(ص) ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَ جَعَلْتَ مَعَ اللَّهِ شَرِيكاً؟؟؟!!! فَقَالَ لَهُ : وَيْلَكَ!!! إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، وَيَقُولُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَاللَّهِ لَكَأَنِّي مَا قَرَأْتُهُمَا قَطُّ) .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى