غير مصنف

عالم بلا أخلاق

ترى ما العمق الفلسفي المطلوب لإقناع الضمير العالمي بأن ما يجري في بلاد اليمن الكئيبة هو جرائم وحشية ونمط من الموت المجاني لا يليق حتى بأدنى الحيوانات ؟
هل نحتاج حقاً إلى براهين فلسفية عميقة، أو إلى بلاغة جوفاء كالتي يتمتع بها أوباما لنقرر أن الإبادة الجماعية التي يمارسها التافه علي عبدالله صالح بنشوة بدائية كانت على الأقل حَريَّة ً بردود فعل إنسانية أكثر حرارة من موقف المتفرج البارد الذي يقفه الضمير العالمي ببلادة منقطعة النظير؟
تُرى ما هو الفارق الجوهري العظيم الذي يجعل الضمير الأخلاقي العالمي مُسهّداً حين يتعلق الأمر بجريمة تطال ذوي البشرة البيضاء، بينما تفتقده المأساة اليمنية ؟
سيصر عالم السياسيين التافه حتى آخر اللحظات على الإقتناع بالحجج التي يرددها المتخلف البدوي عبدالله بن عبدالعزيز، ولكن هل يستطيع المثقفون ورجال الدين والمنظمات الإنسانية المنافقة أن يبرروا يوماً هذه الفضيحة المدوية التي ألحقتها برسالتهم المفترضة قوى الهمجية والبربرية؟
من يستطيع اليوم أن يقنعني بأن الحضارة التي تتبجح بإنجازاتها تختلف بشيء عن عصور الهمجية والجاهلية الأولى ؟
إن حضارة ترتضي بمعادلة تزدري البعد الأخلاقي وتموضعه في الخانة الأخيرة من سلم التفاهات لا أظنها جديرة بإقناع مثقف حقيقي .. طبعاً لا أتحدث هنا عن الأمم المتحدة أو الجامعة العربية أو من منظمة المؤتمر الإسلامي المضحكة فهي جزء من نظام الأسطورة الذي يغلف الوعي المعاصر، أو هي بالأحرى أدوات الخرافة التي تقصي الضمير الأخلاقي بعيداً عن مدارات اليقظة والمعنى.
الحقيقة إن ما يجري في صعدة ومن قبلها في العراق وافغانستان وفيتنام وغيرها كل هذا كان بالتأكيد محفزات قوية تستدعي إعادة الأسئلة الكبرى المتعلقة بحضارة الموت البارد، ولكن ربما لم يحدث شيء من هذا لأن وعينا لم يكن باليقظة الكافية التي تؤهله لإدراك سمك الأسطورة التي تغلف عالمنا.
يستطيع مراهقو الثقافة في عالمنا الثالث أن يتحدثوا بحماسة بالغة عن بعض القيم التي يفتقدونها، دون أن يلتفتون كما هي العادة إلى خلطهم المأساوي بين المتحقق والمأمول، ولكنهم على أي حال لا يمثلون حالة شاذة تبعث على الألم والرثاء، بل هم بالأحرى يمثلون حالة نموذجية للغاية !
فإذا كانت البؤر الأقل نضوجاً فكرياً هي الأكثر تعاطياً واستهلاكاً لمقولات الواقع فإن مثقفي العالم الثالث هم بيقين ثابت العينة الأوضح التي يمكن ملاحظة منطق الأسطورة من خلالها.
نعم لا تصعب أبداً ملاحظة منطق الأسطورة في رؤى الإنسان الغربي، ولكنها قد تستدعي صبراً وأناة أطول لطبيعة الحماسة المسيطر عليها والغامضة عادة التي تغلف هذه الرؤى.
منطق الإسطورة يتأطر بمقولة أساسية تتمثل بفكرة إننا نسعى بإرادة مخلصة إلى أن نضع دائماً قدماً ثابتة على الطريق الصحيحة !! قد تبدو هذه المقولة غامضة بلا حدود – وهي كذلك على أية حال – غير أن مطلقيها يعون بالتأكيد ما تستثيره في الأذهان من تفسيرات معقدة الخطوات ولكنها دائماً تفسيرات تنحو منحى متوقعاً.
فالمفعول الأساس لها يحقق في كل الأحوال معادلة واحدة لا تتغير ولا تتخلف، فعلى الدوام ستكون محفزاً إفيونياً قوياً لتهريب وجع الحاضر والفعلي لمصلحة غيمة سرابية تتمرأى في سقف الوهم بألوان لا تُقاوم.
فالمستقبل في عالم الأسطورة الذي نعيشه دائماً يملك حضوراً هيولياً بحجم الحلم ولكنه شأنه شأن الماضي في أساطير العالم القديم الجميلة لم يأت يوماً ولن يأتي، وسيبقى دائماً غيمة أفيونية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى