غير مصنف

الحرية بين مفهومين!!!

بسم الله الرحمن الرحيم

تعد الحرية من المصطلحات المغرية جداً للبشرية ، بل تكاد تكون المثير الأبرز الذي يسيل له لعاب المفكرين والساسة والمتربصين ، وكل واحد منهم يهم أن يدلي بدلوه في تلك الطوى بعيدة المهوى ، فاضطربت عقولهم كاضطراب الرشا في الطوى البعيدة ،
ذاك أن الحرية مفهوم إلهي بالأصل ، ولولا وروده على لسان الأنبياء والرسل والأوصياء(ع) على طول المسيرة البشرية ، لما وجدنا له اليوم من وجود على ساحة الفكر والسياسة والاجتماع ، لقد حاول الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين(ع) ترسيخ مفهوم الحرية الحق في ضمائر البشر بجعله منطلقا لهم فكرا وعملا ، وبالمقابل حاول سماسرة الشيطان تزييف ذلك المفهوم من خلال استغلال معطيات الحياة المادية ونزوع النفس البشرية لها في هذا العالم فحاولوا استزراعه في صحراء المادة ، يضاهئون فعل الله سبحانه باستنباته في أنفس الناس وضمائرهم .
لقد طرح قادة الفكر الإلهي مفهوما للحرية يحقق للمخلوقين الظفر برضا خالقهم من خلال تحقق الغاية من وجودهم ألا وهي المعرفة بالله سبحانه استنادا إلى ما ورد في الحديث القدسي الشريف [كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف] ولكي تتحقق تلك المعرفة جعل الحق سبحانه لعباده قيما روحية كي يتسنى لهم بها معرفته جل وعلا ومن ثم العمل على وفق نهجه الذي اختطه لهم كي يكونوا صورة له سبحانه تعرِّف به وتمثل تجليا له ، حيث ورد في الحديث القدسي [ عبدي أطعني تكن مثلي ، فأنا حي لا أموت أجعلك حيا لا تموت …] وهذه القيم تستند إلى التحرر من قيم المادة بوصفها (عدما ظلمانيا) استحال وجوداً بفضل إشراقة النور الإلهي فيه ، وتلك الإشراقة سميت (الروح) ، وهي طاقة الحياة والنور ، ولذلك كان لتلك الإشراقة في دنيا المادة هدفا انحرفت عنه البشرية ، والهدف أعلنه الحق سبحانه وعاهد عليه عباده في عالم الذر (عالم النور) فقال تعالى{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}(الأعراف/172) ، وشكلت قيم المادة التي جعلت في الشخصية البشرية في هذا العالم ساحة امتحان له واختبار ، فالحق سبحانه وبداعي العدل سوى خلقه تسوية فجعل فيهم قيم الروح الداعية إلى الخير والمعرفة الإلهية وعبودية الذات الباقية ، وجعل فيهم قيم المادة الداعية إلى الشرّ والأنانية وعبودية الذات الفانية ، واستودعهم إرادة الاختيار والقدرة على الفعل والحركة باتجاه أحد النزوعين قال تعالى{ونفس وما سواها * فألهما فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها}(الشمس/7-10) ، وأمرهم بأن ينزعوا إلى ما فيه خلودهم وبقاؤهم ، وحذرهم من النزوع باتجاه قيم المادة لأنها ستستهلك الهبة النورية الإلهية ، ومن ثم ستجعلهم في ظلمات لا يبصرون ، قال تعالى{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ}(البقرة/17) .
وبالمقابل سعى أرباب الدنيا إلى أن يفتنوا أنفسهم بالعطاء المادي ويغرقوا فيه حتى أعشى أبصارهم وبصائرهم عن القيم الحقيقية للعطاء الروحي وأيهما يستمد وجوده وعزمه الفعلي من الآخر ، ولشدة افتتانهم قلبوا معادلة الوجود رأسا على عقب مع علمهم ، بل ويقينهم أن الوضع الصحيح للمعادلة هو غير ما فعلوه ، وهذا ما أعلن عنه الحق سبحانه لكي لا يغرر بمن لا يعرف حقيقة من رضي أن يبيع دينه بدنياه ، قال تعالى{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}(النمل/14) ، فالحق سبحانه جعل الدنيا للدين فصيرها مزرعة للآخرة ، والبشرية تفانت على أن تغير إرادة الله سبحانه بجعل الدنيا غاية الخلق ، وتسخير الروح بجعلها خادما منفذا لمرادات الجسد والشهوات النفسية ، ولقد حاولت في البدء أن يكون التغيير على مستوى الواقع لتتمكن من حسم صراع الدين والدنيا لصالح الدنيا ، من خلال القضاء على الدين تماما ومحوه من واقع الحياة ، ولما وجدت بعد صراع مرير أنها أوهى من أن تحقق ذلك ولو على مستوى الخيال والوهم ، انكفأت تفكر في سبيل آخر تستديم به الصراع كي لا تعلن انهزامها على أرض الواقع ، فنقلت ساحة الصراع من واقع الحياة بوصفه الثابت الإلهي الذي لا يمكن تغييره أو تزييفه ، بل هو شاهد بكل تفصيل من تفاصيله على ملكية الله سبحانه ، قال تعالى{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(فصلت/53) ، ولذلك فتزييف الواقع وتبديله وتغييره لا سبيل له لأنه ثابت الحق الذي لا يتغير ولا يتبدل ، وهذا ما أعلنته البشرية جهارا نهارا عندما حكى الله سبحانه قولها لرسوله(ص) {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}(يونس/15) ، والقرآن الذي طالبوا رسول الله(ص) بتغييره أو تبديله ليس هو النص الصامت ، بل هم طالبوا باستبدال الثابت الذي جعله الله سبحانه ممثلا له على الأرض وصورته عليها ولسانه وعينه ويده ، والذي جعل طاعته طاعة للحق سبحانه حيث قال الحق سبحانه{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(النساء/59) ، إذن هم طالبوا بتغيير اللسان الناطق بالحق ، طالبوا بتغيير القرآن الناطق أو تبديله ، أما القرآن الصامت فهم أذعنوا له وقبلوه لأنهم يعلمون أنه لا سبيل إلى تغييره أو تبديله ، فحكى الله سبحانه قولهم{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}(الزخرف/31) ، فالنص واقع ثابت لا يقدرون عليه ، فكانوا أن طالبوا بما يتوهمون القدرة على تغييره وهو الرجل الناطق بالقرآن ، فهم يريدونه على ما يشتهون هم ويريدون ، بغض عن إرادة الله سبحانه واختياره .
ساحة الصراع الجديدة التي وجدوا الفرصة متاحة لتغييرها وتزييفها هي النفس البشرية لإمكانها الاختيار لجهة النزوع ، أو ما يصطلح عليه اليوم بـ(الوعي) فعملت البشرية على تصنيع المادة وتثويره باتجاهها وإجهاده فيها وفي تصنيعها ، حتى أن انشغاله فيها جعلها تستحدث له قيما أخلاقية غير تلك التي جاء بها الأنبياء والمرسلين والأوصياء(ع) ، غير أن تغيير المنظومة الأخلاقية كل ابتعد عن الأخلاق الإلهية تصطدم البشرية بمصائب إلهية لا قبل لها على مواجهتها ، بل وتعلن عجزها عن مواجهتها ، ذاك أن المنظومة الأخلاقية الإلهية تعمل بتوافق وتناغم مع واقع الحياة مما يثبت على وحدانية الخالق والمالك :
فيا عجبا كيف يعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحد
وفــي كل شــيء له آيـــــة *** تــدل على أنــه واحــــد
وتلك الآيات الدالة على وحدانية الخالق تفضح انحراف البشرية وتيهها في صحراء المادة ، وراحت توهم البشرية نفسها أن عصمتها المادية وما تدعو له من منظومة أخلاقية مادية قادرة على هزيمة المشروع الإلهي في النفوس ، وربما نجح الجهد البشري وحضارته المادية في افتتان السواد الأعظم من البشرية غير أن هذا النجاح المزعوم في تمرير المشروع المادي وتفعيله في الأنفس ، عطل المشروع الإلهي وعزله عن مباشرة الواقع الذي خلق له ، ولذلك كان الحاصل هذه الألوان المتكاثرة من البلاءات التي تفاجأ بها البشرية يوميا وتقف بإزائها عاجزة ، ولا يستطيع مشروعها المادي من تقديم وقاء يقيها تلك البلاءات لأن سبب تلك البلاءات هو التخريب الذي يمارسه المشروع المادي البشري على الواقع ، بما فيه الواقع الإنساني ، والحرية التي يحاول المشروع المادي البشري بها تستلزم عبودية المخلوق لأناه الشهوانية ، ومن ثم تسخره تلك الأنا بما يوفر لها شهواتها بغض النظر عما موافقة المطلوب مع النظام الواقعي الثابت ، أو تعارضه معه ، وهو غالبا ما يكون متعارضا مع النظام الواقعي الذي وضعته السماء ، ولذلك ينتج عن هذا التعارض كل تلك المآسي والبلاءات ، ومفهوم الحرية الذي يطرحه المشروع المادي البشري أثمر عن فساد خطير ما كانت البشرية لتتصوره لو قيل لها قبل عقود من الزمان مضت ، وتحقق تماما ما كان يحذر منه رسل الحرية الحق محمد وآل محمد(ص) ، حيث ورد عن : [عن ابن – عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لما عرج بي إلى ربي جل جلاله أتاني النداء : يا محمد ! قلت : لبيك رب العظمة لبيك ، فأوحى الله تعالى إلي يا محمد فيم اختصم الملا الأعلى ؟ قلت : إلهي لا علم لي ، فقال : يا محمد هلا اتخذت من الآدمين وزيرا وأخا ووصيا من بعدك ؟ فقلت : إلهي ومن أتخذ ؟ تخير لي أنت يا إلهي ، فأوحى الله إلي : يا محمد قد اخترت لك من الآدميين علي بن أبي طالب ، فقلت : إلهي ابن عمي ؟ فأوحى الله إلي يا محمد إن عليا وارثك ووارث العلم من بعدك وصاحب لوائك لواء الحمد يوم القيامة وصاحب حوضك ، يسقي من ورد عليه من مؤمني أمتك ، ثم أوحى الله عز وجل إلي : يا محمد إني قد أقسمت على نفسي قسما حقا لا يشرب من ذلك الحوض مبغض لك ولأهل بيتك وذريتك الطيبين الطاهرين ، حقا أقول : يا محمد لأدخلن جميع أمتك الجنة إلا من أبى من خلقي ، فقلت : إلهي ( هل ) واحد يأبى من دخول الجنة ؟ فأوحى الله عز وجل إلي : بلى ، فقلت : وكيف يأبى ؟ فأوحى الله إلي : يا محمد اخترتك من خلقي ، واخترت لك وصيا من بعدك ، وجعلته منك بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدك ، وألقيت محبته في قلبك وجعلته أبا لولدك فحقه بعدك على أمتك كحقك عليهم في حياتك ، فمن جحد حقه فقد جحد حقك ، ومن أبى أن يواليه فقد أبى أن يواليك ، ومن أبى أن يواليك فقد أبى أن يدخل الجنة ، فخررت لله عز وجل ساجدا شكرا لما أنعم علي ، فإذا مناديا ينادى ؛ إرفع يا محمد رأسك ، وسلني أعطك ، فقلت : إلهي أجمع أمتي من بعدي على ولاية علي بن أبي طالب ليردوا جميعا علي حوضي يوم القيامة ؟ فأوحى الله تعالى إلي يا محمد إني قد قضيت في عبادي قبل أن أخلقهم ، وقضائي ماض فيهم ، لأهلك به من أشاء وأهدي به من أشاء . وقد آتيته علمك من بعدك وجعلته وزيرك وخليفتك من بعدك على أهلك وأمتك ، عزيمة مني لأدخل الجنة من أحبه ولا أدخل الجنة من أبغضه وعاداه وأنكر ولايته بعدك ، فمن أبغضه أبغضك ، ومن أبغضك أبغضني ، ومن عاداه فقد عاداك ، ومن عاداك فقد عاداني ، ومن أحبه فقد أحبك ، ومن أحبك فقد أحبني ، وقد جعلت له هذه الفضيلة ، وأعطيتك أن أخرج من صلبه أحد عشر مهديا كلهم من ذريتك من البكر البتول ، وآخر رجل منهم يصلي خلفه عيسى بن مريم ، يملأ الأرض عدلا كما ملئت منهم ظلما وجورا ، أنجي به من الهلكة ، وأهدي به من الضلالة ، وأبرئ به من العمى ، وأشفي به المريض ، فقلت : إلهي وسيدي متى يكون ذلك؟ فأوحى الله عز وجل : يكون ذلك إذا رفع العلم ، وظهر الجهل ، وكثر القراء ، وقل العمل ، وكثر القتل ، وقل الفقهاء الهادون ، وكثر فقهاء الضلالة والخونة ، وكثر الشعراء ، واتخذ أمتك قبورهم مساجد ، وحليت المصاحف ، وزخرفت المساجد وكثر الجور والفساد ، وظهر المنكر وأمر أمتك به ونهوا عن المعروف ، و اكتفى الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء ، وصارت الأمراء كفرة ، وأولياؤهم فجرة وأعوانهم ظلمة ، وذوي الرأي منهم فسقة ، وعند ذلك ثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وخراب البصرة على يد رجل من ذريتك يتبعه الزنوج ، وخروج رجل من ولد الحسين بن علي وظهور الدجال يخرج بالمشرق من سجستان (المسماة اليوم سيستان ومن ينسب إليها يسمى سيستاني) ، وظهور السفياني ، فقلت : إلهي ومتى يكون بعدي من الفتن ؟ فأوحى الله إلي وأخبرني ببلاء بني أمية وفتنة ولد عمي ، وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فأوصيت بذلك ابن عمي حين هبطت إلى الأرض وأديت  الرسالة ، ولله الحمد على ذلك كما حمده النبيون وكما حمده كل شيء قبلي وما هو خالقه إلى يوم القيامة .](كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق:250-252) ، فمن يتأمل النص تأمل منصف سيجد ما ذكره رسول الله(ص) وقع كما وصف ، ولم يصف رسول الله(ص) ما يحدث للناس من بلاء بل دلهم على سبيل النجاة ، ولكن أكثر الناس لا يفقهون!!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى