زاوية العقائد الدينيةعقائد السنةعقائد الشيعة

الشورى في المـــــيزان بيان موجز ونقد لنظرية الشورى في الحكم الإسلامي – الحلقة التاسعة

 المشورة :

تقدم بيان أن المشورة تكون للإمام وهي امتداد لقوله تعالى للرسول محمد (ص) : ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ([1]). وكما قدمت أن هذه المشورة راجعة إلى المعصوم سواء في نوع الأمر الذي يشاور الأمة به أو في الأخذ بمشورة الأمة أو الأخذ بخلافها بدليل ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾.

فسواء كانت الولايات واقعة ضمن الأمور التي يشاور بها الإمام أم لا .. فهذا الأمر لا يهمنا الآن .. انما يهمنا أن من يريد أن يتولى أو من يراد له أن يتولى شيئاً من أمور المسلمين فعليه أولاً أن يشاور الإمام المعصوم أي يأخذ الإذن منه .. لكي تكون أمور الأمة جميعا تخرج من مخرج واحد … دفعاً للخلاف والافتراق والفتنة.

فالقرآن والسنة والعقل يحكمون بأن أمر الخلافة والإمامة مقام مختص بالله تعالى ولا يمكن للناس أن تجزم في تحديد مصاديقه أبداً .. وهذا محكم تُحكم به كل النصوص المتشابهة أو التي يُدّعى تشابهها.

الوجه الثاني: لنا نقول أن أمر الأمة هنا هو ( البيعة ):

وعلى هذا فلا يخلو قول الإمام الرضا (ع) : ( من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه )، من احتمالين؛ إما انه يقصد الجماعة قبل أن تبايع الخليفة، أو الجماعة بعد أن بايعت الخليفة، والاحتمال الثاني إما يراد منه الجماعة التي بايعت الخليفة غير الشرعي وغير المنصب، وإما يراد منه الجماعة التي بايعت الخليفة الشرعي المنصب.

فالبيعة شيء وتعيين الخليفة أو الإمام شيء آخر، فالخليفة لا يُعيَّن بالبيعة، بل بالنص من الله ومن رسوله، والبيعة تكون عهداً بين الأمة وبين الخليفة في تصديقه ونصرته وامتثال أوامره، كما كانت البيعة في زمن رسول الله (ص).

فـ ( البيعة ) هنا هي من حق الأمة ولا يمكن لأحد أن يسعى إلى اغتصابها من دون مشاورة الأمة، أي إذنها وقبولها، والحق هنا بمعنى أن الله جعل لها الخيار فإن اختارت بيعة الخليفة الشرعي المنصب، فقد اهتدت وفازت في الدنيا والآخرة، وإن اختارت بيعة الخليفة غير الشرعي .. فقد ضلت وخسرت وعليها تحمل تبعات هذا الاختيار … ويبقى الخليفة الشرعي إن وجد أنصاراً قاتل من اجل استرداد حقه المغتصب … وإن لم يجد يصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.

وحق الاختيار في البيعة ليس معناه شرعية النتيجة مهما كانت .. بل هو مثل حق الإنسان في اختيار طريق الحق أو طريق الضلال أو اختيار الطاعة أو المعصية، بمعنى أنه مخير وليس مجبور، وعليه تحمل تبعات اختياره إن خيراً فخير وان شراً فشر ، قال تعالى: ﴿  لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ([2]).

فلم ينقل لنا أن الرسول محمد (ص) قد أجبر شخصاً أو جماعة على بيعته، وذلك لأن البيعة من العقود، أي أنها بين جهتين أو طرفين: المُبَايِع والمُبَايَع له، ومن أهم شروط صحة العقد أن يكون المتعاقد مختاراً غير مجبور، فإن كان المتعاقد مجبوراً فلا شرعية للعقد ولا تترتب عليه الآثار الشرعية.

وكذلك لم يُنقل لنا بأن أحد الأئمة طلب بيعة الأمة بالجبر والإكراه، بل هم يُذكرّون الأمة بأحقيتهم بالخلافة من خلال القرآن والسنة، وهذا ما نقل لنا عن أمير المؤمنين (ع) وعن الإمام الحسين (ع) والمجال لا يسع لنقل كلماتهم وخطابهم للأمة في ذلك.

فرغم أن الإمام علي (ع) منصب من الله ورسوله، لم يجبر أحداً على مبايعته، في حين نرى أن من لا حق له بالخلافة قد سعى إلى إجبار الناس على بيعته بشتى السبل ووصل الأمر إلى إراقة الدماء وسلب الأموال وانتهاك الأعراض !!!

وهذا ما يفسر لنا ما يروى عن أمير المؤمنين (ع) عندما انهال عليه الناس عليه للبيعة:( … فلما أصبحوا يوم البيعة وهو يوم الجمعة حضر الناس المسجد وجاء علي عليه السلام فصعد المنبر وقال : أيها الناس عن ملا وإذن إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم ألا وإنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح ما لكم معي وليس لي أن آخذ درهما دونكم فإن شئتم قعدت لكم وإلا فلا آخذ على أحد فقالوا : نحن على ما فارقناك عليه بالأمس فقال : اللهم اشهد . وبويع يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة … ) بحار الأنوار ج 32 ص 8 – 9.

فقول أمير المؤمنين (ع) : ( إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم )، ليس المراد من ( أمركم ) هو أمر مقام الخلافة والإمامة أبداً، لأن هذا أمر الله وحده، بل المراد أمر بيعتهم في أن يبايعوه على أن يقلدوه أمرهم واتباعهم له، أي يبايعونه على أن يلتزموا أمره ونهيه، أي له الامارة والولاية عليهم.

فلابد من التمييز بين اختيار مصاديق الإمامة والخلافة وتنصيبهم، وبين بيعة الناس والتزامهم باتباع الخليفة، فالخليفة خليفة وإمام سواء بايعته الناس أم لم تبايعه، وبيعة الناس حق لهم لا يجوز لأحد انتزاعها بالجبر سواء، وهذه البيعة والاختيار يتصف بالحق او الباطل تبعاً للشخص المبايع له والمختار، فإن بايعوا الخليفة المنصب من قبل الله تعالى فقد اهتدوا وافلحوا .. وان بايعوا الخليفة الغاصب فقد ضلوا وعصوا وعليهم تحمل ما يترتب على اختيارهم الخاطئ.

فبيعة الناس لا تجعل من المبايع له خليفة أو إماماً، بل قد يجب محاربة من بايعوه إن كان ليس ممن اختاره الله، وقلت: ( قد ) لأن ذلك راجع إلى الخليفة الشرعي فإن وجد العدة والعدد قاتل أئمة الكفر، وإن لم يجد العدة والعدد صبر … وعدم مبايعة الناس له لا تنفي عنه صفة الخلافة والإمامة لأنه لم يتصف بها بسبب بيعة الناس حتى تنعدم عند انعدامها.

نعم بيعة الناس تمكن الخليفة الحق من ممارسة مهام الخلافة في الخارج، ولكن عدم تمكن الخليفة الشرعي من ممارسة مهام الخلافة في الخارج لا يعني انتفاء صفة الخلافة والإمامة منه.

فمثلاً لو أن الخليفة الشرعي قد تغلب عليه زمرة من الناس وسجنوه ، واستلموا تولي مهام الخلافة وكسبوا بيعة الناس لهم ترغيباً أو ترهيباً، فحينئذٍ هل انتقلت صفة الخلافة الشرعية من الخليفة المنصب إلى الغاصبين، لأنهم هم من يمارسون مهام الخلافة أو بعضها في الخارج ؟!

في الحقيقة هذا منهج غريب يزري بعقول الناس إلى الحضيض، ومنزلق خطير يهدف إلى تبرير تعدي الظالمين والطواغيت وإلقاء الشرعية على أفعالهم وغصبهم لدين الله تعالى !!!

 فمثلاً الطبيب صفة ثابتة لمن يمتلك القدرة والخبرة على معالجة الأمراض، ولكن إن حالت الظروف دون ممارسة الطب فعلاً في الخارج، لا تنتفي صفة ( الطبيب ) عن ذلك الرجل، بل يبقى طبيباً سواء مارس الطبابة في الخارج أم لم يمارسها، وكذلك الأمر بالنسبة للمهندس وغيرها من الاختصاصات.

وكذلك يجب التنبه إلى أن حرية البيعة شيء، وفرض دين الله الحق شيء آخر، فالخليفة والإمام الشرعي وإن قلنا بأنه لا يجبر الناس على بيعته .. ولكن له أن يفرض دين الله الحق على كل الناس وان استلزم ذلك القتال .. وذلك إذا وصل فساد وإفساد بقية الأديان والمذاهب إلى مرحلة لا يمكن السكوت عليها ويكون بقاؤها شراً على كل أهل الأرض، ولا يهنأ العيش للناس مع وجود هذا الانحراف الذي لا يسلم منه أخضر ولا يابس.

ففرض الدين الحق على الناس ليس الهدف منه فقط إزاحة المذاهب الباطلة والمنحرفة، بل لأن هذه المذاهب المنحرفة ستكون عقبة كؤوداً في طريق سعادة البشرية دنيا وآخرة، وكما يقال آخر الدواء الكي … وهذا ما سيكون  إن شاء الله على يد المنقذ المقدس.

ولذلك تواترت الروايات بأن الإمام المهدي لا يقوم حتى تملئ الأرض ظلماً وجوراً .. أي إن تذهب الناس في الانحراف والضلال والظلم مذهباً لا يرجى معه صلاح دنيا ولا آخرة.

فحتى الإمام المهدي (ع) لم اسمع برواية تقول بأنه سيجبر الناس على بيعته بالذات، وإن كان سيوحد الناس على ما يحصنهم أخلاقياً ودينياً ودنيوياً.

ولكن مشكلة عقول الوهابية أنها جامدة على ما يزرق فيها بدون تأمل أو تدبر .. فهم لا يفرقون بين البيعة التي هي من العقود والعهود وبين شرعية تنصيب الخليفة أو الإمام.

الوجه الثالث: نقول إن الإمام الرضا (ع) نفسه، قد صرح بأن من كلامهم محكم كمحكم القرآن، ومن كلامهم متشابه كمتشابه القرآن، فردوا المتشابه إلى المحكم، واليكم نص كلامه (ع):

 عن الرضا عليه السلام قال : ( من رد متشابه القرآن إلى محكمة هدى إلى صراط مستقيم ثم قال : إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ومحكما كمحكم القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا ) عيون أخبار الرضا (ع) ج 2 ص 261.

فلا يمكن أن نقصر النظر على رواية واحدة ونريد أن نصوغ العقيدة عليها، بل لابد من النظر إلى مجموع روايات أهل البيت (ع)، فلا يخفى أن الروايات منها العام ومنها الخاص ومنها المطلق ومنها المقيد ومنها المحكم ومنها المتشابه… الخ، فحتى لو قلنا بأن هذه الرواية متشابهة فلابد من إحكامها ببقية الروايات المتواترة عن آل محمد (ع) في النص على أن الخلافة والإمامة تنصيب إلهي ولا يمكن إيكالها لاختيار الناس أو انتخابهم أبداً، والروايات في ذلك كثيرة جدا لا يمكن استقصاءها في هذا المختصر .. ولكن أذكر طرفاً منها:

عن الإمام المهدي (ع) في جوابه لأسئلة سعد بن عبد الله القمي : ( … قلت : فأخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم ، قال : مصلح أو مفسد ؟ قلت : مصلح ، قال : فهل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد ؟ قلت : بلى ، قال : فهي العلة ، وأوردها لك ببرهان ينقاد له عقلك أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله تعالى وأنزل عليهم الكتاب وأيدهم بالوحي والعصمة إذ هم أعلام الأمم وأهدي إلى الاختيار منهم مثل موسى وعيسى عليهما السلام هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا هما بالاختيار أن يقع خيرتهما على المنافق وهما يظنان أنه مؤمن ، قلت : لا ، فقال : هذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن لا يشك في إيمانهم وإخلاصهم ، فوقعت خيرته على المنافقين ، قال الله تعالى : “ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا – إلى قوله – لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ” فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله للنبوة واقعا على الأفسد دون الأصلح وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد علمنا أن لا اختيار إلا لمن يعلم ما تخفي الصدور وما تكن الضمائر وتتصرف عليه السرائر وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح … ) كمال الدين وتمام النعمة ص 461 – 462.

وعن الرضا عليه السلام قال : ( الأئمة خلفاء الله عز وجل في أرضه ) الكافي ج 1 ص 193.

وعن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ( من سره أن يحيى حياتي ، ويموت ميتتي ، ويدخل الجنة التي وعدنيها ربي ويتمسك بقضيب غرسه ربي بيده فليتول علي بن أبي طالب عليه السلام وأوصياءه من بعده ، فإنهم لا يدخلونكم في باب ضلال ، ولا يخرجونكم من باب هدى ، فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم وإني سألت ربي ألا يفرق بينهم وبين الكتاب حتى يردا علي الحوض هكذا – وضم بين أصبعيه – وعرضه ما بين صنعاء إلى أيلة ، فيه قد حان فضة وذهب عدد النجوم ) الكافي ج 1 ص 209.

وعن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال : لما نزلت هذه الآية : ” يوم ندعو كل أناس بإمامهم ” قال المسلمون : يا رسول الله ألست إمام الناس كلهم أجمعين ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أنا رسول الله إلى الناس أجمعين ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي ، يقومون في الناس فيُكذَبون ، ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم ، فمن والاهم ، واتبعهم وصدقهم فهو مني ومعي وسيلقاني ، ألا ومن ظلمهم وكذبهم فليس مني ولا معي وأنا منه برئ ) الكافي ج 1 ص 215.


[1]– آل عمران: 159.

[2]– البقرة: 256.

…………………………………………………………………………………………

( صحيفة الصراط المستقيم – العدد 29 – السنة الثانية – بتاريخ 8-2-2011 م – 4 ربيع الأول 1432 هـ.ق)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى